Articles

Affichage des articles du 2017

يا مؤنس وحشتي

قاعة تتسع لأكثر من عشرين مقعدا موزّعة حول طاولة كبيرة، وفي فناء القاعة مكتبها المتواضع الذي بذلت جهدا في تحسين مظهره بجلب أدوات مكتبية خاصة من بيتها. نبتة صبّار شوكي صغيرة ذات أزهار ملوّنة، حاملة أقلام بلّورية، ومفكّرة مكتب. هي تجاوزت الثلاثين. لا علامات جمال خاصّة تميّزها. عادية المظهر واللباس. محافظة دون أن تكون متديّنة. لباسها محتشم دون حجاب ولا جلباب. خجولة حدّ الانطوائية، يمكن اعتبارها من صنف النساء الخنوعات. تلك القاعة بما تحويه من رفوف قديمة وفهارس ومراجع هي كلّ حياتها. منذ تخلّت عن حلمها بالزواج، صارت تفرغ كلّ شحناتها العاطفية في الشغل، متجاهلة تلك التساؤلات الباطنية الملحّة عن جدوى تلك الأعمال الدقيقة والمرهقة التي تنجزها بدأب في قاعة مهجورة من الباحثين. كانت تلك التساؤلات تضاعف من غربتها وتعمّق كآبتها فتحسّ نفسها عبئا على المجتمع ولا ضرورة لوجودها أصلا في هذا الكون. فما الفائدة يا ترى من عمليات الفهرسة والوصف والتكشيف والتصنيف والترتيب؟ ولماذا تبذّر الدّولة أموالا على رواتب موظفي وعمّال مركز الوثائق الوطنية وعلى بنايته وتجهيزاتها والحال أن لا أحد يطرق أب

حادث شغل

في البداية لم يكن غرضـــه من التهديــد بالانتحار سوى لفت الانتباه والضغط على قيادة الحزب. ولكن بعد مرور أسبوع على اعتصامه أمام مقرّ الحزب وصدور مقالات صحفية عن الموضوع وانتشار فيديوهات في شبكات التواصـــل الاجتماعي، ما عاد بإمكانه التراجع. ووجـــد نفسه متورّطا في الهروب إلى الأمام. ظـــلّ المناضل معتصما أمام مقرّ الحــزب ماسكا بيمناه سيفا، مهدّدا بغرسه في أحشائـــه، إذا تواصل رفض رئيس الحزب مقابلته، وبيسراه رفع لافتــــة كتب عليها "ضحية حادث شغل يطالب بحقّه". والحقيقـــة أنّ تأمّلاته الدّاخلية أثناء الساعات الطويلة لاعتصامه جعلته أكثر من جاد في تهديده بالانتحار. فقد كان مغتاظا لعدم وقوف قادة الحزب إلى جانبه في محنته تلك، وهو الذي لم يتردّد يوما في الدفاع عن الحزب، حتّـــى لمّا يكون غير مقتنع بالموقف. كان يرى في الانضباط شرط نجاح الأحزاب وبقائها. كلّ واحد في مكانه ملتزم بدوره لا يتجاوزه ولا يقصّر فيه. كان يعتبر نفســـه جنديا في خدمة الحزب، عليه أن ينفّـــذ ما يقرّره حكماؤه وعقلاؤه. هي الأحزاب هكذا، بل الدنيا بأسرها. أقلّية تفكّر ومجموعة أكبر ت

زيارة أولــــى إلى دمشــق

بيروت ودمشق سنة 2006، كنّا أربعة تونسيين مشاركين في مؤتمر الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدّولي للأرشيف ببيروت. مؤتمر تطاوس فيه كالعادة دكاترة العرب ليلوكوا كلاما مكرورا لا جديد فيه ويتبادلوا بطاقات الزيارة بكثافة. لم نتردّد بعد نهاية المؤتمر في التوجّه إلى سوريا وكأنّنا خطّطنا للأمر مسبقا. لم يكن من المنطقي أن نصل إلى تخوم الشام دون أن نزور دمشق. دمشق ذاتها لم تكن لتغفر لنا مثل تلك الغلطة. لقطع المسافة التي لا تستغرق أكثر من ساعتين بين العاصمتين، سلكنا في البداية طريقا جبلية تغطّيها أشجار الأرز المغطّاة بالثلوج، قبل أن نتوقّف في استراحة على مشارف مدينة زحلة. مقهى بلّوري صاخب يضجّ بالحياة، مضمّخ بالدفئ وببخار المأكولات اللبنانية اللذيذة. ومن موقعه ذاك على تلك التلّة العالية يطلّ المقهى كبرج مراقبة على سهل شاسع لا يحدّه البصر. وقفت في الخارج أستنشق الهواء النقي مترشفا قهوة البن الممزوج بالهيل، أتأمّل الامتداد المغلّف بالضباب مركّبا على المشهد في ذهني مواويل جبل لبنان وأغاني العتابا والميجانا... قطع عليّ سائق سيّارة الأجرة متعتي وهو يشير باتجاه السهل: "نعبـــر سهل البقاع ل

الزَّنْدْيَانِي

على تلك الأيّام وما كان يميّزها من عمليات إرهابية يؤتيها المتشدّدون الدينيون، ما كان يجوز أن يظهر في تلك القرية الواقعة على الحدود الجبلية غريب ويقيم بين الناس فجأة، دون أن يعرفوا له لا أصلا ولا فصلا... ليس معنى هذا أنّ أهل القرية يرفضون الغرباء بينهم. فقد تعوّدوا منذ أيّام الاستعمار أن يستقبلوا أشخاصا لا صلة لهم بالقرية. وكانوا يكرمونهم ويقدّمون لهم الإحاطة والمساعدة. هذا مدرّس فرنسي، وهذا طبيب بلغاري، وذاك باحث سويدي في علم المناخ، والآخر مهندس أمريكي. وحتّى حكاية المهندس الرّوسي الذي تبيّن فيما بعد أنّه مهرّب آثار لم تثنهم عن حسن استقبال الوافدين من الغرباء. بل وقد مرّ على القرية في بدايات الاستقلال الدعاة والمبشّرون... شرط وحيد كان لابدّ من الاستجابة له: أن يعرف النّاس من يكون ذلك الشخص، حتى لو اختلق لهم رواية كاذبة. كانوا في حاجة إلى تنشيط خيالهم ومن ثمّة الاجتهاد في نسج المبرّرات والاحتمالات ليؤثّثوا بها سمرهم. أمّا أن يظهر بينهم واحد من الهنود الحمر بجلدته البنّية المائلة إلى حمرة الطين، وشعره الأسود الطويل المظفورعلى كتفيه، وبوشمه على الوجه، فهذا ما لم يجدوا له تفسي