Articles

غربة وغرابة وغرباء

  كنت أظنّ أنّني الغريب الوحيد الذي يحبّ اللجوء إلى أنفاق الميترو حيث أقضي الساعات الطوال بعيدا عن صخب المدينة أمارس طقوسي في التسكّع والشرب والأكل والمطالعة إلى غاية أن اصطدمت بهما. أخذت عادة تمضية الوقت في أنفاق الميترو، من المشرّدين الذين يتملّكون تلك الفضاءات أيّام الشتاء، هربا من قسوة البرد والثلوج. أمّا أنا فيمنحني قرب الناس من بعضهم ودفء الجو داخل تلك الأقبية والأنفاق إحساسا بالأمان والإنسانية أفتقده لمّا أكون على سطح الأرض. أحسّ كما لو أنّ الأرض تفتح لي بطنها لتضمّني بين أحشائها بحنوّ فتغمرني الطمأنينة. ينتشر في المكان دفء مشكّل من روائح القهوى وبخار الأطعمة الساخنة التي تقدّمها المطاعم ومن أنّات كمنجات الغجر وإيقاعات التام تام الإفريقي ومن أنفاس المسافرين العابرين على عجلة من أمرهم. هناك أصادف المشرّدين مفترشين الكراتين غير عابئين بما يدور حولهم فيبدون لي أحرارا سابحين في عالم آخر وأتساءل في سرّي من يتجاهل من يا ترى؟ هل العالم هو الذي يتجاهلهم أم أنّهم هم الذين يتجاهلون العالم؟ ذهبت يومها إلى محطّة لابارديو لاستقبال صديقة قادمة من تونس. جلست كعادتي في المطعم التركي وطلبت سندوي

هنا القاهـــرة

 لأنّه لا يعقل أن أغادر الدنيا دون أن ألتقي أمّها، كان لا بدّ لستّينيّ مثلي أن يزور مصر. هكذا، كانت زيارتي لهذا البلد تصحيحا لوضع غيرمنطقي. والحقيقة أنّ رغبتي في زيارة أم الدّنيا لا تعود فقط إلى الأسباب التي يشترك فيها الجميع، أقصد زيارة الأهرامات ومتاحف القاهرة ودور الفنانين والأدباء والمقاهي التي ارتبطت بأسمائهم وآثار الفراعنة في الأقصر وأسوان. ولا إلى صداقتي التي ارتقت إلى مرتبة الأخوّة مع الدّكتور حازم حسين عباس، أخي الذي لم تلده لي أمّي، حتى غدوت أناديه حزّوم "حاف". سبب إصراري على زيارة مصر هو قناعتي بأنّ لأهلي في الجريد أصولا صعيدية. فملامح الوجوه وأنواع اللباس التقليدي والطقوس الدينية والمعمار والأدب الشعبي ترشح كلّها بمؤشرات ترجّح فرضيّتي. سافرت إلى هناك كمن يتقفى آثار أسلافه. إلى ذلك، فنحن في تونس ابتُلِينا بحب مصر من قديم الزمان. ولم أصادف تونسيا يتساءل كيف يُشفَى من حبّ مصر؟ فتونس وهبت لمصر خيرة أبنائها، ومصر احتضنتهم وتبّنتهم حتى أينعت فيها مواهبهم وتدفّق عطاؤهم. يكفي أن أذكر ابن خلدون وابن منظور ومحمد لخضر حسين أوّل من ارتقى إلى إمامة الأزهر الشريف م

المسجِّلة

  عرف هذا الجهاز أوج انتشاره في سبعينات القرن الماضي. وكان من علامات الرفاه الاجتماعي في قريتنا. لا يهاجر الواحد إلى ليبيا إلاّ ويعود بجهاز كاسيت من ماركة آيوا الشهيرة. أجهزة بأحجام مختلفة وقوة صوت متفاوتة. بعضها يقتصر على وظيفتي القراءة والتسجيل الصوتي على أشرطة الكاسيت. وبعضها يجمع بين الرّاديو والكاسيت. وهناك أجهزة تقرأ حتى الإسطوانات. كان من الرائج أن يخرج الشاب من بيت الأسرة وهو يحمل على كتفه صندوقا بحجم الكنتولة وثقلها، ينتصب فوقه لاقط للمحطات الإذاعية، ليتجوّل في الشوارع معاكسا البنات وشعره الطويل منسدل أو منفوش وياقتا قميصه تتدليان على كتفيه كأذني فيل وبنطلونه يرفرف في الأسفل فوق حذاء أعلى من قبقاب الحمّام الخشبي. هذا من علامات الزمن الماضي الذي يغلّفه الحنين فينسينا مآسيه وجوعه وفقره حتى يغدو جميلا لذيذا. أذكر أنّ عمّي غادر العمل بشركة فسفاط قفصة بعد الهول الذي خلفه هجوم الماء على الداموس حتى أغرق رفاقه الأربعة هناك. كان يمكن أن يهلك عمّي معهم لولا أنّه كان في إجازة زفافه. بلغنا الخبر عند الظهيرة وكان حفل الزفاف في أوجه. لمّا دخل عمّي المطبخ، زغردت عمّتي فتبعتها النسوة. ولكنّ

تونس ما بين ثقافة المدينة ومدينة الثقافة

جلال الرويسي، مسقط 2023 ظللت لسنوات طويلة قبل الثورة، كلّما مررت أمام مدينة الثقافة التي تحوّلت من حلم طموح إلى حطام مالح، أقول في نفسي " آه، لو أصير مديرا لها يوما ما "... ولد حلمي بإنشاء مدينة للثقافة قبل أن يظهر المشروع أصلا.. ولد وترعرع أثناء إقامتي بفرنسا في تسعينات القرن الماضي من خلال زياراتي لمتحف اللوفر، ومركز بومبيدو ومعهد العالم العربي والمكتبة الوطنية ومدينة لافيلات الثقافية وبيت علوم الإنسان La Maison des Sciences de l"Homme   والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي Muséum national d'Histoire naturelle   ومتحف غريفان للشمع Musée Grevin وحدائق التويلوري les jardins des Tuileries . وجميعها تقع في باريس عاصمة الأنوار . ترعرع حلمي وكبر في خيالي على هضبة مونت مارتر، عند طاولات المطاعم في جادّة شارع الفنّانين الضيق المطلّ على باريس من عَلٍ، حيث كنّا نسكر بالنبيذ الجيّد وبأنغام كمان ذلك العجوز الغجري الذي تمزج أصابعه الحزن بالفرح. كنت أحمل حلمي في رأسي كمهووس، وأنا أتسكّع في الأنهج المطلّة على ساحة سان ميشال حيث آكل السندويتشات اليونانية اللذيذة والبيرّة، وحي

الحضرة: أو عشرون سنة من النافات بين المادي والروحاني

  منذ دشّن مشروعه الأثنوموسيقي الهادف إلى تصنيف مدوّنة الموسيقى الشعبية التونسية، وبالتحديد منذ عرض النوبة في مطلع تسعينات القرن الماضي، ما انفكّ الفاضل الجزيري يمدّ الجسور بين المادّي والروحاني لدى هذا الشعب... بالتشريح الأثنولوجي المجهري لتفاصيل المعيش المضمّخ بالموروث الحي من طقوس وعادات ولباس وحلي وزينة ومفاخرات وفحوليات ومماحكات وتواطؤات وغمزات وتضمينات وتضرّعات، وتركيب كلّ ذلك على التعبير الموسيقي النابع من المعيش اليومي والملتصق به، مستفيدا من مهاراته ومعارفه المسرحية في التوضيب الرّكحي وإدارة الممثّل ومستعينا بكفاءات في التوزيع الموسيقي الذي يكشف الأبعاد الجمالية المخفية في ثنايا آهات الشعب وابتهالاته ورقصاته، بهذا النسيج المركّب، تمكّن الجزيري من تفجير مكنون الوجدان الجماعي ومصالحة الأجيال الجديدة مع نبض أجدادهم، ولكن أيضا من جعل الأجداد يحسّون نبض العصر ويحضنونه ليكتشفوا الطاقات الخلاّقة لدى أحفادهم... هكذا، ومن خلال هذا المشغل الاثنوموسيقي، نجح الفاضل الجزيري في تعهّد الجين الفني والثقافي لهذا الشعب ونقله عبر الزمن، بنفس نجاح الإنسان في المحافظة على شعلة النار

صلاح الدّيـــــن

إذا كان لابدّ من اختصار صلاح الدين في صفة واحدة لا غير، فستكون أنسب صفاته العجول. فهو لم ينتظر شهره التاسع كي يخرج من بطن أمّه. ولم يستغرق وقتا طويلا كي يكشف لوالديه زيف أملهما فيه كابن بكر. فوفّر عليهما تعب الانتظار ومشقّة الإنفاق على دراسته، رغم أنّه لم يكن للأسرة من أمل سواه في دفع الخصاصة عنها. لم يفقد والداه الأمل فيه رغم انقطاعه المبكّر عن الدراسة لأنّ الأمر لم يكن في نظرهما مرتبطا ضرورة بالنجاح الدراسي والحصول على شهادة. لم يمنعه الفقر وسوء التغذية من أن يكون فارع القوام، قويّ البنية، وسيم المحيّى. كان والده يحدّث زوجته في خلواتهما عن أمله في أن يرى ابنه ذات يوم رياضيا أو ممثّلا مشهورا، أو ربّما فنّانا شعبيا محبوبا من الجماهير، وعن يقينه بأنّ ذلك سيجعل منه شخصا ثريا وذا جاه... كان يؤكّد لزوجته أنّ أغلب الرياضيين المتفوّقين في العالم ينحدرون من أوساط شعبية وكذلك شأن الكثير من الفنّانين. وكانت أمّ صلاح الدين تتنهّد كلّما طوّح زوجها بخيالها وتغمض عينيها وهي تبتسم لترى ابنها فوق منصّات التتويج والميداليات تحلّي عنقه أو وهو يلوّح بالميكروفون راقصا على طريقة الفنّانين ال

De la signification d'être originaire du Bassin minier في معنى أن تكون ولد مينة

  تمثّل القرية المنجمية بيئة فريدة من جميع النواحي، أكانت اجتماعية أو عرقية أو ثقافية أو اقتصادية أو صحية، إلخ. حيث تتفاعل كل هذه الجوانب لتمنح الحياة المنجمية طابعا خاصا لا نجد له مثيلا في أي بيئة أخرى، حتى ليمكن الحديث عن هوية منجمية دون مبالغة. لكنّ هذه الهوية تقوم على مفارقة، تتمثل في أنّ المنجمي قد لا يشعر بصلة كبيرة تربطه بمواطن له يقطن بمدينة ساحلية أو بسهول الشمال، في حين يتماهى مع عامل منجم أيرلندي أو جنوب أفريقي. يتّخذ المنجميون من بزّة العمّال الزرقاء هويّة لهم أكثر ممّا هي الجبّة والشاشية لسائر بني وطنهم. ويؤثّر فيهم شريط البؤساء المقتبس عن رواية "جرمينال" للكاتب إيميل زولا أكثر من شريط الرسالة لمصطفى العقاد. ليس لكونهم أقلّ وطنية وتجذّرا في هويتهم، ولكنّ ذلك دليل انفتاحهم على الإنسانية وهمومها. تنشأ المناجم في كل مكان من العالم بنفس الطريقة تقريبًا. هناك دائمًا رأس مال قادم من مكان آخر يأتي للاستقرار في منطقة لا يقدّر أهلها ما تحويه من ثروات، هذا إذا كانت مأهولة أصلا. ولاستخراج الثروة الباطنية يجلب رأس المال الاستثماري معدّات وينصب آلات ميكانيكية. وسرعان ما يتق