بقايا وطن

إلى نابل، حبّا ووفاء...

اليوم الاول، النهار الصيفيّ وقد انتصف
في الحانة المتوسطية المطلة على البحر من الطابق الاول
حيث زرقة البحر الهادئة مرهم للعين
وحيث النسيم الناعم يدلّك مفاصل الرّوح
بائع اللوز المملّح يلعب البلياردو مع النّادل...

يتسلّيان في انتظار أوّل حريف، 
كلاهما يلبس تبانا قصيرا ونعلا بلاستيكيا خفيفا
صاحب الحانة، العجوز الأشقر يقف إلى المصرف

يكرع البيرة في الكأس العملاقة 
يبدو سعيدا بساعته الذهبية المتدلّية في معصمه المكسوّ بالشعر وبسلسلته الذهبية التي تطوّق عنقا غمره الزغب الأصفر والتجاعيد وبقع الدم المتجلّط السوداء
يتصرّف كحريف صعلوك في انتظار أوّل حريف
يتابع اللعبة في حماس، ولا ينهر نادله
حرفاء منتصف النهار، أبناء الدّار

لا يقطع النادل لعبة البلياردو ليخدمهم
يخدمون أنفسهم، يعرفون جيدا أين توجد الجعة المثلّجة، وصحون الفول الساخن
لا غريب في المكان سواي
هم ياكلون الفول الساخن ويلفظون قشوره على الارض
والنسيم رطب وزرقة البحر ساحرة
الوقت يبدو مسروقا من زمن مضى
يضرب النادل بعصاه العمود الذي أعاقه على التسديد بنجاح
يسب الدين ويلعن فرج أمّ العمود
يضحك صاحب الحانة الاحمر السكران
ذو الساعة الذهبية على المعصم المكسو بالشعر
ويقول للنادل ان قاعات البلياردو المثالية لا توجد إلاّ في الأفلام عامل من أبنائنا المقهورين في فرنسا ينهر طفله بالفرنسية كي يبتعد عن طاولة البلياردو، ثمّ ينظر حواليه متطاوسا
وأنا احتاج بيرّتين لتنشيط الذاكرة ولا أجرؤ أن اقطع على النادل متعته بلعبة البلياردو...
أصبّر نفسي بالشماتة في الصعلوك الذي يفرض على الزبائن حراسة سياراتهم. إنه في الخارج يصلى نارا ذات لهب تحت اشعة الشمس الحارقة
 

.....................
اليوم الثاني
في الحانة المتوسطية حيث زرقة البحر مرهم للعين والنسيم الطري مدلّك لمفاصل الرّوح، 

أقنع نفسي: بيرّتان أو أربع لن تغيّر من الأمر شيئا... من أراد أن يتخلّص من تشحّم الكبد، عليه بالمشي لا بهجر البيرّة التي يشربها باعتدال
ثمّ أنطلق في التقدم بثبات وبطء نحو مصيري المحتوم،
عكس هذه البلاد التي تهرول نحو نهاية يشكّك فيها بعض المتفائين دون حجّة مقنعة. 
هنا، الكل ينادي النادل الاشقر باسم شهرته. "هات كعبة يا دزيري" "صحن فول يا دزيري" كأنما ليذكّروه أنه لن يصير تونسيا مثلهم مهما طالت اقامته بينهم.
ما الذي جاء بهذا القبايلي الذى ما من شيء فيه إلا ويؤكّد تمسّكه بجزائريته إلى هذا البرّ؟. تبّانه بألوان الفريق الوطني الجزائري، شاربه الاصفر الكثيف، لكنته وهو يصرّف الأفعال الفرنسية بقواعد النحو العربي، بهجته التي لا تفقده صرامته وتوثّبه الدائم.
لا يأتيك الدزيري بقواريرك مفتوحة إلى الطاولة أبدا. يفتحها أمامك فتحدث ذلك الصوت المكتوم الناتج عن ضغط الغاز كأنها تطلق عليك السلام مثل غانية لعوب دعوتها إلى طاولتك.
"من هنا يبدا عقد الثقة بيني والحريف. أغلب نوادل الحانات الباريسية قبايل. إنّها مهنتنا التي ورثناها عن آبائنا، نعرفها ونتقنها تماما كما تتقنون أنتم مهنة صنع الفطاير والمحشي". ويغمز بعينيه مبتسما في تواطؤ.
- "يا دزيري الحساب يا دزيري".
- " الحساب عند ربي يا خاوة".
يغيب الدزيري دقائق لصلاة الظهر في المسجد المجاور ثم يعود منتشيا بسكرة التعبّد.
يخفّف الكحول الألم الفضيع الذي يسكن الاحشاء من فترة... ترتخي الاعصاب ويدبّ في الجسد خدر لذيذ يبدّد الوساوس ويؤجّل اليأس ويفتح باب الأمل والحنين...
وفيما تأخذ القارورتان في التعرّي أمامك تدريجيا من ذلك الضباب الذي يغلفهما ويتحول إلى حبيبات من الماء المنسدل على البلور الأخضر كاشفا عن السائل الذهبي في الداخل تتحسس حزمة المناديل الورقية في جيبك قبل أن تغمز الدزيري لمراقبة أغراضك على الطاولة ريثما تعود من الحمام.
يفضحك جواب الدزيري "روح ها الخو روح... على بالك آ صاحبي, ماشي اللي يجي يقعد في الكاري تاع الدزيري". في طريقك إلى الحمام تعبر مربع النادل التونسي المنحني على طاولة البلياردو ينازل بائع اللوز المملح ومفرق ردفيه مكشوف كأخدود في جبل... النادل التونسي، معتقدا انه الأمهر في لعبة البلياردو يستدرج بائع اللوز المملّح كي يلهيه عن بيع لوزه ومنافسته في بيع الفول الذي تقدّمه الحانة بالمجّان لحرفائها. بائع اللوز هو الآخر واثق من مهارته ومن بضاعته يقبل التحدي. وفي غفلة منهما تتسلّل مهريّة، تلك البدوية الرائعة ذات الأوشام على الجبين والمعصمين، فتوزّع على الطاولات خبز الطابونة الساخن ومثلّثات الجبن وتجمع النقود وتتبخّر كسحابة خفيفة مخلّفة رائحة خبزها عابقة في الأرجاء...
ومن نوافذ النزل المجاور، ذلك النزل الزعفراني المهجور، تبدو رؤوس عمّال الترميم تتحرّك في عتمة الغرف وهم ينشرون سراويلهم على الشرفات...
في الأفق، بعيدا بعيدا وراء الصقالة الممتدة في البحر كاللسان، حيث يقفز السباحون في هرج، تلوح سحب داكنة متلبّدة متوعّدة بجرف أوساخ المدينة المتكدّسة على الكرنيش...


نابل في 11 أوت 2018

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى