مقبرة الجلاّز
في المقبرة تأخذ الوجوه سحنة تعبّر عن مستوى علاقتها بالميت. هناك أوّلا أقارب الميّت الذّين من السّهل التعرّف عليهم من خلال التصاقهم بالجثمان وصمتهم وقلّة حركتهم وعمق تأثرهم الذي يجعل نظراتهم شاردة ووجوههم داكنة، فمثلما الخوف يصفّر البشرة، فإنّ الحزن يكحّلها. وهناك الأقارب من العائلة الموسّعة الذين عادة ما تجدهم ناشطين في إتمام مراسم الدّفن منذ وصول الموكب إلى المقبرة. يتحرّكون في كلّ الاتجاهات: يدفعون الأوراق ويستخرجونها، ويدعون إلى صلاة الجنازة، وينظّمون طابور تقبّل التعازي. وقد يلتحق بهم بعض من أصدقاء الميّت الخلّص أو زملائه في الدّراسة أو العمل. ثمّ نجد سائر المعزّين من الزملاء والأصدقاء والمعارف والجيران. يسبق هؤلاء الموكب إلى المقبرة وهناك ينتظرون وصوله. يتجمّعون في حلقات صغيرة يستحضرون مناقب الفقيد، ويتحدّثون عن ظروف موته. بعضهم حزين ومتأثر بصدق. وبعضهم يتصنّع ذلك. ليس نفاقا، وإنّما أخذا بالخاطر وتضامنا مع أهل الميّت. وبعضهم يمزح ويضحك مغالبة للحزن وانتصارا للحياة. وهذا من العادات الحميدة، وفنّ لا يتقنه إلاّ قلّة من الناس النبيهين الذين يعرفون كيف لا يسقطون في التهريج، حتى يحا...