Articles

Affichage des articles du novembre, 2019

شخصيات

كان على المفتّش صالح أن يصفع المناضل الطلاّبي ياسر ويشتم أمّه، حين يواجه سؤاله أين أخفى المناشير بالصّمت... لكنّ صالح صفع ياسر بكف رخوة دون أن يجرؤ على شتم أمّه... قال حسن لزميله وهو يرمقني بطرف عينه: "يا هاشمي، كيف لي أن أبصق على وجهك كمفتّش وأنت لم تشتم لي أمّي كطالب عنيد؟" ضحك الحاضرون في قاعة التمارين، وسمعت أحدهم يقول "لا عليك، سيشتمها بما فيه الكفاية يوم العرض". أمّا الهاشمي فقد برّر لي امتناعه عن شتم أمّ ياسر بأنّه لا يتحمّل بصقة حقيقية على وجهه في كلّ حصّة تمرين... في المساء هاتفي حسن ليقول لي: لا أحد غيري يمكنه أن يلعب دور المفتّش صالح... هذا الدور أريده لي أنا يا أستاذ... أقترح أن نتبادل الأدوار أنا والهاشمي، فيلعب هو ياسر وألعب أنا صالح..." وافقته دون تردّد قائلا أنّنا سنقلب الأدوار من الغد... وفيما فرح الهاشمي بتخلّصه من شخصية المفتّش صالح وبدا حسن متحمّسا كي يخلع ياسر ويعوّضه بصالح، رفضت نجاح رفيقة ياسر وحبيبته هذا التغيير... قالت نادية وهي تشرح لي موقفها: يا أستاذ، مستحيل على نجاح التي تقمّصتها حتى لبستني تماما أن ترى ياسر خار

سي محمّد القمودي وأنا ومنية

فتح أستاذ الرياضة دفتر المناداة وعلّم على خمسة أسماء بقلمه قبل أن يخبــر من وقع عليهم القلم بأنّهم مدعوون إلى المشاركة في اليوم الوطنـــي للعدو الريفي الذي تنظّمه سنويا وزارات التربية والرياضة والدفاع يوم أوّل أحد من شهر مارس. قال سي المستوري أنّ الحضور إجباري ولا عذر للمتغيّبين. وأضاف في محاولة لتحفيزنا: "أنتم محظوظون، فهذا يوم وطني تشارك فيه المعاهد والجمعيات الرياضية والعسكريون من كافة أنحاء الجمهورية. سيشرف على التنظيم البطل الاولمبي محمد القمودي بحضور الوزراء المعنيين وسيكون التلفزيون في الموعد." حدّد سي المستوري اثنين منّا للمشاركة في سباق الثلاثة آلاف متر والثلاثة الآخرين لسباق الخمسة آلاف متر... قبلنا بالقدر المسلّط علينا لأنّنا نعي جيدا٠ أنّه لا مجال لمجادلة سي المستوري. فهو عصبي سريع الضرب وسليط اللسان... أقنعت نفسي بأنّ الثلاثة كيلومترات التي سأجريها لا تعني شيئا أمام العشرين التي كنت أمشيها أيام الإعدادية من الرديف إلى أم العرائس كلّما انقطعت الطريق بسبب فيضان وادي زلاّز... ثم إنّها فرصة لمصافحة الأسطورة محمّد القمودي وأخذ صورة معه. ومن يدري؟ فقد أ

الوطاويط تطرد عصافير الشارع

كنّا نسكن مقاهي الشارع الرئيسي ونتطفّل على مطاعمه... نؤثّث دور الثقافة والمسارح فيه... وكان النظام ضجرا منّا، لكنّه يحتاجنا كي يظهر للعالم أجمع أنّ أيامات قرطاج السينمائية والمسرحية والموسيقية ليست تلفيقا كاذبا... كنّا نصرف اليوم متنقلين من دار ثقافة إلى مسرح أو سينما كالنحل نمتص رحيق الفاكهة الثقافية والفنية ونلقّح أشجار الشارع وحيطانه بالأحلام والأفكار... ما أصعبه من زمن كان زماننا في تدبير الأكل ولكنّنا كنّا نسكت جوعنا بآخر القصائد والمسرحيات والأفلام والأغاني نتلقّفها كما تتلقّف السناجب فاكهة الغابة العذراء المتساقطة فنقشّر دواوين الشعر في مكتبة الكتاب ونترشّف الأفلام في نوادي السينما ونجرّب فرضيات أخرى للحياة مع فرق المسرح وننحت ذائقتنا اللونية والتشكيلية بالوقوف طويلا أمام تنصيبات النحّاتين ولوحات الرسّامين في قاعات ابن رشيق وابن خلدون والأخبار... كنّا نتفيّأ بظلال شجر الفيكوس حيث نلقّـــن العصافير أغانيها التي ستشدوها عند الأصيل... انتهـــى أغلبنا إلى الاقتناع بأنّ الثورة ملحمة إغريقية غابرة، أو أسطورة لاتينية، ما عدا بعض العنيدين الذين ظلّت الثورة عندهم حبّة مه

روحـــي روحـــي

من الظواهر الاجتماعية التي اختفت منذ سنين طويلة، أولئك الغرباء الذين كانوا يظهرون في قريتنا في الخريف قادمين من وراء الجبال الغربية. يقيمون في الاسطبل مع الحمير والبغال او في المسجد وفيهم من ينصب خيمة على تخوم القرية وفيهم الدرويش الذي حاز ثقة اهل القرية فمكنه احدهم من مخزن متفرع عن سقيفة حوشه او حانوت مستقل... بيض البشرة، حمر الخدود، زرق العيون، صفر الشعر... كان الكبار يقولون لنا انهم يخطفون الاطفال ممّن كانت خطوط أكفّهم تشق اليد بالكامل ليذبحوهم ويقدموهم قرا بين للجن حتى يساعدهم على استخراج الكنوز الخبيئة. كنا مسكونين بالهلع منهم، نتطلع طول الوقت الى أكفّنا لنتأكد من أنّ خطوطها تقف في منتصف الكفّ ولا تشقّه بالكامل... كان حديث الكبار عن الغرابة ينمّي لدينا احساسا مزدوجا بين الخوف والفضول... ولذلك لم نكن قادرين على مقاومة جاذبيتهم. فقد كان لديهم ما يشبه المغناطيس يجعلنا نتقفى خطاهم ونتحلق حول الواحد منهم في بطحاء السوق وهو يبيع العقاقير والزيوت الروحية وزهم النعام وكتب الروض العاطر والايضاح في علم النكاح والفية ابن مالك ونهج البردة... كانوا يقلعون الاضراس ويشفطون الد

ماذا يعني أن أطير؟

انطلقت علاقتتي بالطائرات سنة 1994. كنت وقتها قد تجاوزت الثلاثين من عمري ما جعلني افقد الامل نهائيا في ركوب الطائرة واقنع نفسي بانها لم تصنع لامثالي، وأنا المتعوّد على إقناع نفسي بأنّني مستثى من التمتّع ببعض الأشياء كالبحر والثلج والسرك، إلخ. بعد ذلك، تعددت رحلاتي الجوية حتى صرت غير قادر على عدها. عرفت مطارات عديدة عبر العالم باجوائها الساحرة ومطاعمها ومقاهيها واسواقها وشرطتها وجمارجها وبمسافريها المتنوعين النائمين على الارضيات... في خلال ذلك، كنت اسمع عن رحلات تاخرت لسبب او اخر، دون أن أجد سببا وجيها لتذمّر الناس من تلك التأخيرات. واتمنى لو كنت مكانهم. فالرحلة الجوية عندي مغامرة مثيرة ومفتوحة على المفاجئ والمجهول بما في ذلك اختطاف الطائرة وهبوطها الاضطراري وتاخرها ومرورها بمنطقة تقلبات جوية وعدم وصول الحقائب الى غير ذلك من البهارات التي تعطي الرحلة مذاقا خاصا وتجعل منها ذكرى لا تنسى... لكنني للاسف وطوال رحلاتي، حتى مع أسوأ شركات الطيران سمعة، لم يحالفني الحظ في تاخير يضطر الشركة الى تمكيني من إقامة في فندق المطار مثلا... أتخيّل كيف سأقضي فترة الانتظار في اكتشاف تف

كوريغـــــرافيا

لا أحد منّا كان يهتمّ بمادّة التربية البدنية، إلى أن تمّ تعيين سي كمّون بالمعهد الذي غيّر الوضع كلّيا. وسي كمّـــون حاصل على الأستاذية في الرياضة من رومانيا أيّام تشاوسسكو... كان عملاقا له جسد تمثال إغريقي، طويل القامة غليظ العظم مفتول العضلات جميل المحيّى. لا يعاب في مظهره شيء سوى أنّه لا يجد بدلة رياضية على مقاسه فيبدو في ما يلبسه من أزياء غريبا وطريفا بتلك البنطلونات القصيرة والملتصقة بمؤخّرته والفاضحة لماعونه الأمامي... وهو ما يجعله مثيرا للضحك والهمهمات كلّما مرّ أمام التلاميذ... وعلى ضخامة جسمه كان له وجه طفولي، يجعلنا لا نأخذ كلامه وحزمه مأخذ الجدّ... لكنّ سي كمّــون ليس ملاكا كما يوحي بذلك مظهره...جاء ليدرّس التربية البدنية، وسرعان ما صار مشرفا على الشبيبة المدرسية ثمّ مدرّبا للفريق المحلّي لكرة القدم... وقد كنت شاهدا وأنا الكاتب العام لمكتب الشبيبة المدرسية على حركاته التي يرمي من وراءها إلى خدمة مصالحه. لابدّ أن أوضّح أنّني لم أختر تلك الخطّة ولم أُسْتَشَــرْ عمّا إذا كنت أرغب فيها أم لا. كان تفوّقي الدراسي كافيا كي يتمّ تعييني من طرف مدير المعهد كاتبا عام

موزار في حيّنا

في منتصف الستينات من القرن الماضي، شيّدت شركة فسفاط قفصــة مساكن لعمّالها سمّتها الحي العمّالي. بـــدا في السنوات الأولـــى لتشييده حيّا جميلا. فهو بالمقارنة مع الأحياء الشعبية الأخرى حيث يقيم العمّال نظيف مستقيم الأنهج وواسعها، أبيض الجدران أزرق الأبواب والنوافذ... كان العمّال يتهافتون على الإقامة فيه، حتّى أنّ سي المنصف الجريصي المكلّف بتوزيع هذه المساكن على العمّال صار يقبض الرشاوي من العمّال الفقراء حتّى يظفر الواحد منهم بمبتغاه.  وسي المنصف هذا شخص قميء تقوّس ظهره من فرط طول قامته ونحافتها. وتزداد هيئته غرابة بحرصه على جعل رأسه مرفوعا دائما، بينما مؤخّرته تبرز إلى أعلى وهو يمشي... تكاد لا تتبيّن له ملامح واضحة بسبب شعره الذي لا يستقرّ على تسريحة وآثار الجدري على وجهه ونظارتيه الطبيّتين السميكتين الداكنتين اللتين لا تظهر من خلفهما سوى خرزتين صغيرتين تتحرّكان دون هوادة. يده اليمنى لا تفارق جيب بنطلونه ومن مكانها ذاك كثيرا ما يسوّي بها وضع ما بين فخذيه...  كان منزل سي المنصف بالحي الأوروبي حيث يسكن المهندسون الفرنسيون وكبار موظّفي الشركة من التونسيين، مزارا لزوجات ا