Articles

Affichage des articles du juillet, 2015

أحزاب العمارة

كانت مجريات الثورة على العمارة إعصارا لم يبق منها سوى هيكلها العظمي بعد أن نهب محلاّتها ومتاجرها الجياع المنفلتون من عقالهم. قبل ذلك، كانت تلك البناية المنتصبة في بطحاء السوق استثناء في معمار القرية. كانت بطوابقها الأربعة معلما بارزا يستدلّ به على الاتجاهات والعناوين. عندها، ينزل الغرباء من زوّار القرية، وهناك تضرب لهم المواعيد. ورغم كونهم لا يغنمون منها شيئا، فقد كانت العمارة مفخرة جميع سكّان القرية. ولعلّها تحوّلت عند أكثرهم إلى عنصر هويّة يباهون به أهل القرى المجاورة. بناها رئيس مكتب الحزب الحاكم وجعل منها مجمّعا تجاريا سوّغ محلاّته لباعة الملابس الجاهزة والأحذية ولشركات الاتصالات ومكاتب خدمات الأنترنيت. لم يتصوّر أحد أن تعود إليها الحياة بعد ما لحقها من تخريب. فقد ظلّت بعد الثورة أكثر من ثلاث سنوات كخرائب مدينة دمّرتها الحرب. كست جدرانها المتفحّمة شعارات مختلفة وتحوّلت إلى ملاذ للحشّاشين والشواذ. لكنّ جمعيّة فتيّة تسمّي نفسها "أوفياء الثورة والشهداء" تحرّكت ذات يوم لترميم البناية وتهيئتها. وفي ظرف أسابيع معدودة، انتهت الأشغال وعادت منارة القرية أجمل من ذ

نوبة سيدي أحمد المجدوب

Image
عند الضحى، صدحت زكرة سيدي علي على إيقاع الطبّالين معلنة وصول الفرقة بعزف نوبة سيدي أحمد المجدوب. حالما أطلّوا من رأس النهج حيث تلتقي مجاري المياه المنزلية مكوّنة مستنقعا آسنا، أعطى سيدي علي الزكّار الإيعاز للطبّالين بحركة رأسية وهو ينفخ أوداجه ويفرغها بالتناوب ذات اليمين وذات اليسار في قصبة مزماره بحيث لا يفرغ خدّ إلاّ وقد امتلأ الآخر بالهواء وهو ما يضمن استمرار النغم دون انقطاع. سيدي علي رجل فخم يحرص على أناقته ووسامته كفنّان مشهور، أبيض القشرة أحمرها حليق الذقن على الدوام، يتهمّم بلبس جبّة حريرية بيضاء، ويضع فوق شاشيته القرمزية لحفة بيضاء ناصعة تنسدل ناعمة على كتفيه، وعلى أنفه الكبير تنتصب نظارتان سوداوان كبيرتان يخفي بهما رمدا مزمنا يجعل عينيه دامعتين على طول العام... هرع جميع من في البيت خارجه تاركين ما بين أيديهم وقد أخذتهم تخميرة الدرّازي. الأطفال يجرون والنساء يزغردن والبنات يتصايحن والعجائز ماسكات المباخر والشبّان فوق السطوح توقّفوا عن شد حبال الستارة العملاقة التي استعارها الحاج من وكيل ديوان الحبوب بعدما أوصى له بصندوق بيرّة. ومن فوق السطح، غمز العريس أخاه حتى يراقب والده

المعلّقون في الجو

صادف سفري من قطر إلى تونس يوم عيد الفطر لدى الخليجيين وآخر أيام رمضان لدى المغاربيين. هكذا، كان عليّ أن أطير "معيّدا" وأحطّ "مرمضنا"... في الطائرة، وجدت نفسي جالسا إلى جانب شاب ملتح ويحمل رضيعا لم يتجاوز السنتين. وعلى الجانب الآخر من الممرّ جلست زوجته المنقّبة وابنته. رصّ جاري في صندوق الأمتعة العلوي بعنف ومشقّة حقيبتين ثقيلتين ولكنّه ما لبث أن وقف ليسحب من إحداهما مصحف قرآن طفق يقرأه في صمت. وكأنّما لإلهاء نفسي عن رائحة الطيب القويّة المنبعثة منه قاطعة عليّ نفسي، وضعت السمّاعتين وشغّلت شريط فيديو. في الأثناء، استعرت بيننا معركة صامتة مدارها أحقية كلّ منّا في حيازة مسند المرفق المشترك بيننا، فقد كان كلّ منّا يخاتل الآخر ليضع مرفقه عليه...لمّا سألتني المضيّفة وهي تناولني وجبة الطعام ما الذي أريد شربه، أجبتها بشكل فوري وبلسان واثق وصوت مسموع "نبيذ من فضلك". ابتسمت وهي تمدّ يدها بالكأس التي استقرّت أمام لحية جاري وأنفه وفوق صفحة كتاب القرآن. تجمّد جاري مكانه واحتقن وجهه، كمن التفّ على رقبته ثعبان سامّ. والحقيقة أنّني لم أخطّط للأمر، فقد لمعت الفكرة في دماغ

الممحون

"هيّا، تصبّح ها الصباح" قالتها بتفخيم الباء على طريقة أهل الوسط الغربي قبل أن تتحسّس بيدها تحت المخدّة وهي مغمضة العينين باحثة عن الهاتف لإخماد منبّهه. كان قد سبقها إلى الحمّام لتدخين جونتة تفتح دماغه ويقوى بها على مجابهة يومه الجديد. لكنّ عقب السيجارة ظلّ يعاند طرّادة المياه ويراوغ ضغط الماء ليطفو كلّ مرّة من جديد ويرفض أن يغيب في البالوعة. أعاد الكرّة أكثر من مرّة دون جدوى، فاضظرّ إلى غمس يده في الحفرة لتناول العقب وتفتيته ومن ثمّة الدوس على طرّادة المياه من جديد. فتح نافذة الحمّام وضرب بيديه في الفضاء ليساعد على تغيير الهواء. بدا له أنّه قد حقّق إنجازا كبيرا بفعلته تلك وأعجب أيّما إعجاب بنباهته وفطنته إلى أدق التفاصيل، وهذا مطلوب لدى أصحاب المحنة في هذه البلاد. فشتّان بين مراهق يريد التباهي بما يفعل جريا وراء بطولة زائفة وبين ممحون لا همّ له سوى تعمير رأسه بما يساعده على تحمّل هموم الحياة التي تصير أصعب مع كلّ يوم جديد. دخل تحت مرشّ الماء ليأخذ دشّا باردا وتعمّد إدخال رغوة الشامبو إلى عينيه حتى يكون ذلك مبرّرا كافيا لاحمرارهما، حلق بعد ذلك ذقنه بعناية بدا له أنّها استغرق