مقبرة الجلاّز

في المقبرة تأخذ الوجوه سحنة تعبّر عن مستوى علاقتها بالميت. هناك أوّلا أقارب الميّت الذّين من السّهل التعرّف عليهم من خلال التصاقهم بالجثمان وصمتهم وقلّة حركتهم وعمق تأثرهم الذي يجعل نظراتهم شاردة ووجوههم داكنة، فمثلما الخوف يصفّر البشرة، فإنّ الحزن يكحّلها. وهناك الأقارب من العائلة الموسّعة الذين عادة ما تجدهم ناشطين في إتمام مراسم الدّفن منذ وصول الموكب إلى المقبرة. يتحرّكون في كلّ الاتجاهات: يدفعون الأوراق ويستخرجونها، ويدعون إلى صلاة الجنازة، وينظّمون طابور تقبّل التعازي. وقد يلتحق بهم بعض من أصدقاء الميّت الخلّص أو زملائه في الدّراسة أو العمل. ثمّ نجد سائر المعزّين من الزملاء والأصدقاء والمعارف والجيران. يسبق هؤلاء الموكب إلى المقبرة وهناك ينتظرون وصوله. يتجمّعون في حلقات صغيرة يستحضرون مناقب الفقيد، ويتحدّثون عن ظروف موته. بعضهم حزين ومتأثر بصدق. وبعضهم يتصنّع ذلك. ليس نفاقا، وإنّما أخذا بالخاطر وتضامنا مع أهل الميّت. وبعضهم يمزح ويضحك مغالبة للحزن وانتصارا للحياة. وهذا من العادات الحميدة، وفنّ لا يتقنه إلاّ قلّة من الناس النبيهين الذين يعرفون كيف لا يسقطون في التهريج، حتى يحافظوا على مهابة الجنازة.

وهناك من جهة ثانية موظّفو المقبرة والدّائرون في فلكها. أوّلهم سائق سيّارة الدّفن. يصل في الوقت إلى بيت الميّت، يقدّم التّعازي على عجل كما تؤدّى التحية العسكرية، ثمّ يطلب رفع الجثمان سائلا عمّن سيرافقه في السيّارة ومشترطا في صرامة أن لا يتجاوز العدد الثلاثة. يسوق بهدوء وخشوع لست تدري إن كان حقيقيا أم مصطنعا. فربّما جعل منه تكرار الحالة فيلسوفا للموت من فرط التأمّل. وهناك موظّف مكتب الدّفن، الذّي يشبه طبيب التشريح في بروده. هذا الشخص يترك مشاعره في البيت قبل أن يخرج إلى العمل. حياده لافت وهو يطبع شهادات الوفيات ويوزّع القبور على الأموات الجدد ويحيّن المعطيات على جدول الدفن في سبّورة الوفيات ببهو المقبرة. إذا لم يكن بين أهل الميّت شخص رصين وهادئ ينتبه إلى ضرورة استرضاء موظّف الدّفن، فقد يلحق بالميت ضرر لا يمكن إصلاحه لاحقا. فمن القبور ما كان على حافة الطريق عرضة للعفس والرفس والانجراف، ومنها ما كان تحت شجرة وارفة تظلّله صيفا وتحميه من المطر شتاء. إذا غضب موظف الدّفن نفى الميّت في أعلى التلّة فيصحّ عليه القول "ملّلي دفنوه ما زاروه". ولموظّف الدّفن غصّة وحسرة لا تشفى لأنّه يغار من زملائه موظّفي البلدية المعيّنين بأقسام الثقافة أو الرّياضة، الأمر الذي يسمح لهم بملاقاة الوزراء والوجهاء في أوقات البهجة فيأخذون معهم الصور التذكارية ويطلبون منهم الخدمات والامتيازات فتقضى. أمّا هو فلا يلاقي أصحاب النفوذ والأعيان إلاّ في أوقات حزنهم، فكيف له أن يفاتحهم في أمر. وهناك المتمعّشون من الموت وأغلبهم يسكن المقبرة، كالقبّار المجتهد في حفر قبر يليق ولا يضيق، وقارئ القرآن على الميّت بمقابل يكفي لشراء قارورتين ومستلزماتهما من التّبغ والأكل لتأثيث السهرة بين القبور حيث تدور حياة أخرى أثناء الليل لا يتخيّلها عابرو المقبرة بالنهار.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى