المطالعة في الأحياء الشعبيّة

جلال الرّويسي- المعهد العالي للتوثيق، جامعة منوبة- قفصة فيفري 2013

  مقدّمة
اعتاد المكتبيون تلخيص رسالة المكتبة العمومية في أربعة عناوين رئيسية تجمع بين الثقافي والتربوي والاجتماعي والإعلامي (أو الإخباري)، وذلك وفق سلّم أولويات متحرّك على ضوء تطوّرات المجتمع والمعرفة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال. وبالنّظر لما شهده الفضاء العمومي في تونس بكلّ تجلّياته المادية والرّمزية طيلة حكم الدكتاتورية، من حصار وتضييق حالا دونه والنهوض بوظائفه في التأطير والإدماج الاجتماعي من ناحية، ولما يعيشه هذا الفضاء اليوم من تجاذبات وزخم فكري حاد، فإنّ الوظيفة الاجتماعية للمكتبة العمومية قفزت لتحتلّ الصّدارة طارحة على المكتبة أن تتحوّل إلى فضاء لتبادل الرّأي والتطارح في الشّأن العام والفعل المدني بأنواعه والإبداع الجماعي والتعاوني. ذلك أنّ حاجة النّاس إلى اللقاء الحضوري والاحتكاك المباشر تتعاظم في وضعيات الحراك الثوري التي تتّسم بالحيرة أمام القادم المبهم والتساؤل عمّا يحدث وسيحدث. ويحتاج الناس في هذه الوضعيات أن يرى بعضهم البعض ليلمسوا تفاصيل تفاعلاتهم وانفعالاتهم، في إطار فضاءات مناسبة تحظى بثقتهم وتوفّر لهم ما يحتاجونه من خدمات وتجهيزات ومرافق.
1. في راهنية الاهتمام بالأحياء الشعبية
من المتّفق عليه أنّ الأحياء الشعبية تختزن طاقة هائلة تجعلها بمثابة خزّان بارود قابل إمّا للاستغلال في إنتاج الثروة والتنمية أو في التّخريب والهدم. وتكفي الإشارة إلى الدّور المتقدّم الذي لعبته الأحياء الشعبية بالعاصمة في الحراك الثوري منذ شتاء 2010 للوقوف على أهمّية هذه الطّاقة التي تختزنها الأحياء الشعبية. من الناحية التاريخية، يعتبر الحي الشعبي المفردة الأساسية لعمران المدن الصناعية الكبرى في العصر الحديث. فالحي الشعبي هو حي العمّال الذين تتوافد نسبة كبيرة منهم من الرّيف على المدينة للعمل بمصانعها وتسكن أطرافها. وتتضافر عديد الاعتبارات الديمغرافية والثقافية والاقتصادية لتؤثّر على طبيعة الحي الشعبي وعلى نمط الحياة والعلاقات فيه حتّى يتحوّل من حي العمّال بامتياز إلى حي المهمّشين عموما. كما يفعل الزمن فعله مؤدّيا إلى اختلاف الجيل الأوّل الوافد من الريف والمؤسّس للأحياء الشعبية عن الجيل الثاني المولود والناشئ في هذه الأحياء. فالمنظومة القيمية والتحديات والسلوكات تشهد تطوّرات من جيل إلى آخر. 
تعريف الحي الشعبي
تطلق على الأحياء الشعبية تسميات أخرى مثل الأحياء الأقل حظا والأحياء الساخنة والأحياء الحزامية والأحياء القصديرية. وتعكس جميع هذه التسميات نظرة دونية تنمّ عن إقصاء اجتماعي واقتصادي وثقافي يكرّس عزلة الحي الشعبي. ويؤدّي هذا الإقصاء متعدّد الأوجه إلى تصاعد العنف بمختلف تعبيراته المادية والمعنوية. وهو ما يعمّق عزلة الحي الشعبي وانغلاقه على نفسه لأنّ الغرباء عن الحي يتجنّبون مجرّد عبوره، فما بالك بالإقامة فيه أو ممارسة الأنشطة الاقتصادية؟ كما يضمر حضور مؤسّسات الدّولة والمرافق العامّة كالأمن والتربية والثقافة والترفيه والصحّة. وبذلك يغدو الحي الشعبي "غيتو" أي منطقة مغلقة ومسيجة كالمعتقل. فمن الناحية العمرانية، هو حي ينبت على تخوم المدينة. وسواء كان مخطّطا له من طرف السلطة أو تشكّل تلقائيا فهو ينمو بشكل فوضوي وسريع ومفاجئ. إنّه حيّ ضيق الأزقة، متلاصق المساكن، يفتقر إلى المرافق الأساسية كقنوات الصّرف الصحّي والمساحات الخضراء ومؤسّسات الرعاية الاجتماعية والإدارات المختلفة. ويقتصر الفضاء العمومي فيه على المقهى والبطحاء و"راس النهج" والمسجد. وفي الحيّ الشعبي، ينزع الاكتظاظ عن الحياة العائلية كلّ حميمية، حيث يسيطر الضجيج على إيقاع الحياة في غياب أي عزل صوتي. أطفال يلعبون وخصومات في البيوت وبين الجيران وأصوات باعة وإذاعات وتلفزيون وآلات تسجيل ومضخّمات أصوات وأعراس وأشغال لا تتوقف وحيوانات أهلية ومنبهات سيارات. أمّا من النّاحية الاجتماعية والاقتصادية، فيتميّز سكّان الحي الشعبي بتكتّلهم في إطار "حوم" (لفظة شعبية تونسية مفردها حومة وتعني الحارة) يسكنها أقارب من نفس الجهة بل من نفس العرش، بحثا عن الاحتماء ضدّ قسوة المدينة الرّافضة لهم والمزدرية لعاداتهم والمملوءة بالغرباء حيث لا أمان على الأعراض والأرزاق. إنّه حي/مدينة يتكوّن على قاعدة العصبية القبلية بما تعنيه من علاقات وقيم وسلوك، ولكن في فضاء مختلف عن فضاء الريف والبادية. فعلى عكس موجات النزوح التي عرفتها العاصمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث كانت كل جهة تختص بحرفة معيّنة (الفطايرية من غمراسن والخبّازة من مطماطة والحمّالة من المطوية والعطّارة من جربة، الخ. وهو ما كان عنصرا حاسما لصالح اندماجهم في مجتمعات المدن التي يقصدونها (1)، فإنّ موجات ما بعد الاستقلال شذّت عن هذه القاعدة. وجاءت عناصرها شتاتا من الفقراء الذين لا يتقنون حرفا يدوية ومن غير المتعلّمين. فالحي الشعبي حي يسكنه ذوو الدّخل المحدود والمهن الهشة وترتفع فيه نسب البطالة. وغالبا ما تكون محدوديّة الدّخل وراء انتشار الاقتصاد الموازي كتجارة الممنوعات والتّهريب ومهن الرصيف، الخ. ومن خصائص الحي الشعبي أيضا ارتفاع نسب الأمّية والانقطاع المبكر عن الدراسة والطلاق. كما تتفشّى فيه ظاهرة الهجرة القانونية وغير القانونية، ممّا يجعل من عودة أبنائه المهاجرين في العطلة كرنفالا لمظاهر المجتمع الاستهلاكي وسلوكاته من إنفاق مفرط في المأكل والملبس ومن استعراض استفزازي للسيارات والتجهيزات الإلكترونية. وهو ما يلهب الحماس إلى الهجرة لدى شباب الحي. في رحم هذا المشهد المتنافر المشبع بالعنف والحرمان، تتشكّل المنظومة القيمية لسكّان الحي الشعبي. ولأنّهم يتمسّكون بالعيش على نفس النمط الذي كانوا عليه في قراهم وأريافهم في محيط غير مهيّأ لذلك يفرض عليهم عادات جديدة ويدفعهم إلى استبدال نشاطهم الأصلي، تحصل الصّدمات وتنشأ التوتّرات المنبئة بالأزمات القادمة. لقد تعوّد هؤلاء السكّان بالمساحات الشاسعة حيث يمكنهم تربية الدواب والحيوانات الأهلية وإذا بهم في الضيق، وألفوا تعاطي الأنشطة الفلاحية وإذا بهم مدعوون إلى ممارسة مهن هشّة وهامشية (تجار رصيف، ماسحو أحذية، عتّالون، جنّانون، حرّاس، الخ.) وينطبق هذا على الرّجال كما النّساء.، إذ يتغيّر دور المرأة في الحياة الأسرية والنشاط الاقتصادي جذريا. فبعدما كانت عماد البيت ومحور الحياة الأسرية، هاهي منظّفة في الوزارات والشركات أو معينة منزلية أو بائعة في المتاجر مع ما يصاحب ذلك من تفكّك أسري وتراجع التأطير والرّقابة الاجتماعيين. هكذا تتعرّض مرجعياتهم القيمية والأخلاقية والثقافية التي جاؤوا بها إلى شروخ مؤلمة فتأخذ في الذّوبان والتلاشي فاسحة المجال لنثار هجين من القيم المتداخلة التي تتطلّب وقتا طويلا كي تنصهر في إطار منظومة جديدة يتبنّاها الجيل الثاني الناشئ في الحي الشعبي. ومن سمات المنظومة القيمية الجديدة الاستعاضة عن عصبية الجهة والقبيلة بعصبية الحي القائمة على التقاء المصالح ووحدة المصير (ثقافة "ولد حومتي" بدل ثقافة "ولد عمّي"). وليست هذه المنظومة الجديدة إلاّ انعكاسا لتراتبية اقتصادية تحفظ مقامات الفاعلين الاقتصاديين ومصالحهم في إطار شبكات من الاقتصاد الموازي تجمع بين الضبابية والنجاعة. شبكات تقوم على الفساد والإفساد في إطار التهريب والتهرّب حيث لا أحد يعرف أين تصل الامتدادات الأخطبوطية لهذه الشبكات. ولا تتردّد هذه الشبكات في الاستناد على العنف كلغة تعامل يومي وعلى سلطة المال وكذلك على توظيف الدّين. وكان عالم الأنثروبولوجيا أوسكار لويس قد وضع منذ ستينات القرن الماضي مفهوم "ثقافة الفقر" وعرّفها بوصفها جملة القيم والمواقف التي تؤدّي إلى انغلاق الأفراد في دائرة تشكّلت في الأصل كردّ فعل على ظروفهم الخارجية  القاسية  وغير الملائمة، ولكنّها ترسّخت وظلت تنتقل من جيل إلى آخر مكرّسة حالة البؤس والفقر مهما تطوّرت فيما بعد ظروف الناس المعيشية. ومن علاماتها عقدة الدونية المتأصّلة في الأفراد، النزعة التخريبية، العنف المادي واللفظي، القدرية والاستسلام، الاتكال على مساعدات الدّولة الاجتماعية ، انتظار معجزة مخلّصة من ورطة الفقر قد تكون سماوية أو دنيوية كالربح في ألعاب الحظ أو العثور على كنز، الراحة النفسية في وضع الضحية واستبطانه،الخ. ولكنّ هذا المفهوم على وجاهته العلمية، كان ضحية التوظيف والتجاذب السياسيين بين الليبيراليين المحافظين والمنادين بسياسات اجتماعية لصالح الفقراء. ففي حين اعتمد المحافظون هذا المفهوم لتفسير الأوضاع البائسة للفقراء بثقافتهم، فاعتبروا اّن المسؤول على بؤس الفقراء ليس قلّة الفرص وانسداد الأفق أمامهم، وإنّما هو ثقافتهم وقيمهم السّلبية، كان هناك تيّار مضادّ يحرّم (يجرّم) إرجاع الفقر والبؤس إلى جذور ثقافية معتبرا ذلك ممارسة عنصرية. [2]  
وأيّا كانت الحال، فإنّه من الصّعب في مثل هذا الواقع القاسي الحديث عن الممارسة الثقافية بما هي حاجة إنسانية حيوية وممارسة واعية. غير أنّ نفس هذا الواقع يدفع النّاس في الحيّ الشعبي إلى تطوير آليات "ذات طبيعة ثقافية" للدفاع الذّاتي ومقاومة التّهميش والإقصاء. ففي رحم هذا المحيط الصّعب تحصل تفاعلات تولّد طاقات خلاّقة، وتنتشر سلوكات، وينشأ نظام قيم يتعيّن الانتباه إليه لتفكيكه وفهمه جيّدا، بهدف تثمين ما يختزنه من علامات إيجابية بدل تجاهلها والقفز عليها. فعادة ما تختزن الأحياء الشعبية طاقة شبابية كبرى يكون من الخطأ بل ومن الخطر تجاهلها. إنّها طاقة خام وضاغطة بقوّة تريد التعبير عن وجودها من خلال الفعل الميداني. وبالتّالي فإنّ غياب التّأطير الاجتماعي والتربوي والثقافي يجعلها قابلة للتوجيه والتوظيف باتجاه الجريمة والانحراف الاجتماعي والتعبئة الإيديولوجية العمياء. إنّ الوجه الآخر للحي الشعبي يكشف عن نقاط ارتكاز عديدة يمكن أن تكون منطلقا لتطوير ممارسة ثقافية متجذّرة في محيطها وقادرة على مخاطبته والفعل فيه. ومن بين هذه العلامات التي يمكن التأسيس عليها نذكر:  
  • التضامن كقيمة اجتماعية متأصّلة وشائعة لدى عموم النّاس في حياتهم اليومية 
  • عزة النفس وحدّة الإحساس بالكرامة
  • الإقدام وروح المغامرة التي تنمو بفضل الاعتماد المبكّر على النّفس
  • الطّموح إلى التألق الرياضي النّاشئ من ثقافة التحدّي
  • طاقة التحمّل وروح المكابدة والمثابرة التي تنمو مع الجهد اليومي لاقتلاع القوت
  • روح الخيال والرّومنسية لدى البعض كآلية تعويض على الواقع المرير
  • روح الدّعابة والسّخرية التي هي سلاحهم ضدّ الآخر المتعالي وضدّ قسوة الحياة.
وإلى جانب هذه الخصال الإنسانية والقيم الاجتماعية، نلاحظ انتشار بعض الممارسات والاهتمامات ذات الجوهر الثقافي حتّى وإن لم تعبّر عن نفسها بصفتها تلك. فمتابعة البرامج الإذاعية والتلفزية ثقافة والإقبال على الجرائد اليومية وعلى الرياضة (استهلاكا وممارسة) ثقافة، وكذلك الشّأن بالنّسبة للتديّن والموضة والوشم و"القجمي"[3] وسائر فنون الشارع كموسيقى الراب و ال SLAM والرقص والكتابة والتّصوير على الجدران ومختلف ألوان ثقافة الهامش الأخرى[4]، الخ. من هنا نتبيّن أنّ الصّورة ليست على ذلك القدر من القتامة الذي يوحي به تناول الحي الشعبي من الجانب العمراني والاجتماعي والاقتصادي. ويمثّل الانتباه إلى هذه الخصوصيات شرطا لتأسيس ممارسات ثقافية تنطلق من واقع النّاس ولا تسقط عليهم بعقليّة متعالية هي أقرب إلى خطاب من يدّعون إدخال التمدّن والحضارة على الشعوب المتوحّشة والتجمّعات البدائية. ولنا في تجارب بعض البلدان التي سعت إلى تأطير الحراك الاجتماعي والشبابي في أحيائها الشعبية أمثلة عمّا يمكن فعله في مجال الانطلاق من الواقع والتأسيس فيه دون إسقاط عقيم.
2.   المطالعة في الأحياء الشعبية
يعني طرح موضوع المطالعة في الأحياء الشعبية أن نتناول المطالعة بوصفها ممارسة ثقافية فردية، ولكن أيضا أن ندرسها باعتبارها سياسة ثقافية رسمية في إطار مؤسّسة المكتبة العمومية. وفي كلتا الحالتين، سنتناول إشكالية المطالعة في الأحياء الشعبية وعلاقة الناس بالمكتبة العمومية في ضوء نظرية الدوافع والحاجات التي وضعها الباحث أبراهام هارولد ماسلو[5]. على أنّنا سنستثني فئة الأطفال من المقاربة بنظرية الدوافع والحاجات. ذلك أنّ الأطفال فئة عمرية تخضع استجاباتها إلى اعتبارات سيكولوجية واجتماعية مغايرة لما يختص به الكبار، وبالتالي فمفهوم الحاجة وسلّم الأولويات يختلف لديهم. يؤكّد ماسلو على تدرّج الإحساس بالحاجة والسّعي إلى إشباعها من الطبيعي إلى الثقافي، (أو من المادّي إلى المعنوي) في إطار هرم تصاعدي من خمسة طوابق سمّاه "هرم الحاجات". حيث نجد في قاعدة الهرم الحاجات الفيزيولوجية للإنسان كالأكل والشرب والنوم والتنفّس. ويأتي بعد ذلك المستوى الثاني الذي يضمّ الحاجات المرتبطة بالأمن والسّلامة كالصحّة والحرّية والحماية من الخطر والتهديد. وفي الطّابق الثالث نجد الحاجات الاجتماعية كالإحساس بالانتماء إلى مجموعة بشرية والاندماج فيها بربط العلاقات مع الآخرين والتعامل معهم أخذا وعطاء وتأسيس أسرة وتبادل مشاعر المحبّة والمودّة. أمّا الطّابق الرّابع فيضعه ماسلو تحت عنوان الحاجة إلى التّقدير والاعتراف ويشمل تقدير الفرد لذاته وسعيه إلى حيازة احترام الآخرين وإعجابهم واعترافهم بكفاءته وقيمته في المجموعة ممّا يعطيه توازنه النّفسي ورضاه عن ذاته. ويخصّص ماسلو الطّابق الخامس والأخير لما يسمّيه الحاجة إلى تحقيق الذّات من خلال التطوّر المستقل للشخصيّة وفهم الواقع والإضافة والابتكار. ومن شروط الوعي بالحاجات المنتمية إلى طابق ما من الهرم والسّعي إلى إشباعها، الاستجابة الكاملة لحاجات الطابق الأدنى. وإلاّ وقفت هذه الأخيرة حاجزا يمنع الفرد من المرور إلى الطّابق الأعلى والوعي بعناصره.
المطالعة في الأحياء الشعبية كممارسة ثقافية فردية
فأين يمكن تصنيف الحاجة إلى المعرفة والثقافة عموما وإلى المطالعة على وجه التحديد ضمن طوابق هذا الهرم؟ وأيّ موقع يمكن أن تحتلّه المطالعة في أولويات سكّان الأحياء الشعبية، على ضوء ما نعرفه عن مستوى العيش في هذه الأوساط؟ لنوضّح أوّلا أنّ ما نعنيه بالمطالعة هو ذلك الفعل الحرّ الذّي يمارسه الفرد في طلب المعلومات، بعيدا عن أيّة غاية نفعية غير المتعة والثقافة الشخصية. وانطلاقا من هذا التعريف، يمكن تصنيف الحاجة إلى المطالعة في باب الحاجة إلى تحقيق الذات (أي في الطابق الخامس والأخير من هرم ماسلو) فسكّان الحي الشعبي يبحثون عن سدّ حاجياتهم الأساسية من السكن والمأكل والصحّة والأمن قبل بحثهم عن الكتب والمعلومات. ذلك أنّ المطالعة لا تشكّل حاجة حيوية بالمعنى البيولوجي للكلمة، ولا حاجة أمنية بالمعنى المادي للكلمة ولا هي أيضا حاجة اجتماعية بالمعنى الذي سبق بيانه. لذلك، يصعب الحديث عن المطالعة الفرديّة المنزلية بالأحياء الشعبية. فالحديث عن فرد يطالع في غرفة يتقاسمها مع إخوته بمنزل شعبي متواضع يقع في حي شعبي ضاج، أو عن ربّ أسرة شعبية يقتطع جزء من دخله المتواضع لشراء الكتب وتكوين مكتبة عائليّة، يعد ضربا من الخيال السريالي الذّي لا نلمس له أثرا في الواقع. وفي أفضل الحالات فهو استثناء لا يرقى إلى مستوى الظاهرة الاجتماعية. لذلك، سنركّز اهتمامنا على المطالعة في المكتبات التي تتميّز بكونها فعل انخراط اجتماعي une activité socialisante ممّا يسمح بتصنيفها في الطّابق الثالث للهرم. ولأنّ التّسليم بوجود ارتباط بين مستوى العيش والمطالعة كممارسة ثقافية يؤدّي إلى الاستنتاج بأنّ طبيعة الحياة والعلاقات في الحي الشعبي لا تشجّع على ارتياد الفضاءات الثقافية، فلابدّ من الإقرار بصعوبة المهمّة الملقاة على عاتق المكتبيين العاملين بالأحياء الشعبيّة. هذه المهمّة المتمثّلة في رأب الفجوة بين طبيعة فعل المطالعة من ناحية وسلوك الجمهور من ناحية ثانية. وتتأتّى هذه الصعوبة من كون المطالعة ممارسة ثقافية جادّة ونشاطا فكريا يتطلّب حدّا أدنى من الحميميّة والتّركيز ولا يتلاءم مع الأنشطة الجماعية التي من شروط نجاعتها التّنشيط والحركة. فالجمهرة تطمس الخصوصية الفردية وتصهر الذّات وتنمّطها في إطار قالب موحّد ينزع إلى التسطيح خصوصا إذا تعلّق الأمر بفئات اليافعين والشباب من الأوساط الاجتماعية الشعبيّة. والواقع أنّ المكتبات العمومية وما تقترحه من أنشطة وخدمات، رغم كونها نظريا مفتوحة للجميع، لا تأتي في صدارة الحاجات ولا تنسجم مع العادات والممارسات المنتشرة في الأوساط الشعبية، ممّا يجعل هذه المؤسّسات الثقافية مهجورة من أغلب الفئات التي تستهدفها من حيث المبدأ، باستثناء التلاميذ والطّلبة.
المطالعة في الأحياء الشعبية كسياسة ثقافية رسمية: مكتبات الأحياء
ظهر مفهوم مكتبة الحي في البلدان الأوروبية وارتبط بسياسة اللاّمركزية في إدارة الشّأن المحلّي. وهذا معناه أنّ مكتبة الحي مرفق من مرافق القرب (c’est un service de proximité) تبرمج عند وضع مثال التهيئة العمرانية للحي من خلال تخصيص فضاء وظيفي لها، من أجل إتاحة الفرصة لسكّان الحي للاتصال والتلاقي وتبادل الرأي بالاعتماد على الكتب وسائر أوعية المعلومات. وفي هذا تتميّز مكتبة الحي عن سائر الأصناف الأخرى من مكتبات المطالعة العمومية. ذلك أنّه إذا كانت التكنولوجيا الرّقمية وشبكات الاتّصال عن بعد فتحت إمكانية الوصول إلى المعلومات دون حاجة إلى التنقل والحضور بالمبنى المركزي لمكتبة المدينة، وإذا كانت المكتبة المتجوّلة تتنقّل لتقرّب الكتاب من البعيدين عنه، فإنّ مكتبة الحي تحافظ على تلك الصّورة الأصلية لمكتبة المطالعة العمومية بوصفها فضاء/ناديا يلتقي فيه أحبّاء الكتاب ويقضّون الوقت بين جدرانه، هدفها من ذلك تأسيس علاقات فكرية بين سكّان الحي وتخفيف حدّة التوتّرات بينهم. كما تعتبر مكتبة الحي أداة فعّالة تربط الحي بمحيطه المحلي وتساعد على تنفيذ سياسة السّلطة المحلية المنتخبة، من خلال اندماج الحي في نسيج المدينة الثقافي والاجتماعي والتربوي. أمّا عن علاقتها بالمكتبة المركزية للمدينة، فتتكفّل هذه الأخيرة بضمان تكامل الشبكة المحلية وتجانس مكوّناتها وانفتاحها على بعض من خلال اعتماد مركزية المعالجة الفنية والإشراف على الحواسيب المركزية. ومن أوجه التكامل بين مكتبة الحي والمكتبة المركزية اعتماد بطاقة اشتراك صالحة للاستعارة من كامل مكتبات الأحياء التابعة للشبكة المحلية تحت إشراف المكتبة المركزية. وتسمح هذه البطاقة لصاحبها باستعارة كتاب من أيّ نقطة من الشبكة وإعادته لدى أيّ نقطة أخرى من الشبكة، فيما تتكفّل المكتبة المركزية بإعادة الكتاب إلى نقطته المرجعية بواسطة سيارة تؤمّن الرّبط اليومي بين سائر فروع الشبكة. وتعمل مكتبات الأحياء بوصفها فروعا للمكتبة المركزية، فتقترح خدمات ومعلومات متنوّعة مكيّفة حسب حاجات جمهورها المباشر، أي سكان الحي. والأمثلة كثيرة على ما يمكن تقديمه في هذا الباب من أنشطة وخدمات كبرامج محو الأمّية والمساعدة في البحث عن شغل والإعلام حول فرص العمل والتكوين والاستثمار والتنشيط في الملتميديا والألعاب الفكرية والتربوية بواسطة الحاسوب وإيصال الوثائق إلى المنزل لفائدة المرضى والمقعدين والإعلام بخصوص الأحداث الثقافية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية في الحي والمشاركة في حملات التّحسيس لفائدة التلقيح أو التثقيف الصحّي في مجال الأمراض السّارية أو الصحّة الإنجابية أو الإقلاع عن التدخين أو الأمراض الوراثية والتوثيق لذاكرة الحي بواسطة الصور الفوتوغرافية وشهادات "كبار الحومة" والوثائق الأرشيفية كالتصاميم القديمة وغيرها والتعريف بمعالم الحي من المباني القديمة وحصص الدّعم الدّراسي وحضانة الأطفال لترغيبهم في المطالعة، إلخ. وهكذا تتجاوز مكتبة الحي دورها التقليدي المقتصر على توفير الكتب للمطالعة لتتحوّل إلى مركز محلي للمعلومات المتعدّدة الوسائط [6]. على أنّ الاستفادة الأمثل من مكتبة الحي لا تتم إلاّ متى تفاعلت هذه الأخيرة مع سائر المرافق العمومية الأخرى المحيطة بها. وقد بيّنت تجارب العديد من المدن الأوروبية كيف أنّ مكتبة الحي تستفيد كثيرا من وجودها في إطار مركّب ثقافي مندمج وتفيد ذلك المركّب في نفس الوقت، حيث تدعم عمل المصالح وتضع أرصدتها الوثائقية والمعلوماتية وحتّى فضاءاتها وتجهيزاتها على ذمّة التظاهرات الثقافية فتشعّ وتكسب جمهورا ما كانت لتصل إليه لولا وجودها في ذلك المركّب الثقافي. وفي بعض المدن يتوسّع المركّب الثقافي ليشمل المرافق الإدارية والاجتماعية والتجارية. فهناك من المكتبات ما يوجد في مساحات تجارية كبرى. حيث تجد الأسرة في الخدمات التّي توفّرها هذه الفضاءات المندمجة برنامجا ثريّا ومتنوّعا يؤثّث "الخرجة" العائلية جامعا بين الإمتاع والإفادة. حيث يعهد بالأطفال الصغار إلى مكتبة اللُّعب (la ludothèque) ويذهب الأكبر منهم إلى المكتبة المتعدّدة الوسائط ويتفرّغ الأولياء للتبضّع أو لتسوية بعض الشؤون الإدارية، فيما يذهب الشباب للسينما. ثمّ يلتقي الجميع من جديد عند الفراغ من شؤونهم.
3. مكتبة الحي في تونس
ليس لدينا في تونس مكتبات أحياء، فجميع مكتباتنا العمومية مهيكلة في إطار الشبكة الوطنية للمطالعة العمومية التي تشرف عليها وزارة الثقافة عبر إدارة المطالعة العمومية. والحقيقة أنّ للشبكة الوطنية فلسفتها ومنطقها المختلفين عن فلسفة ومنطق الشبكات المحلّية. فبقدر ما كانت الشبكات الوطنية نتيجة تصوّر محدّد لدور الدّولة الوطنية الحديثة غداة الاستقلال، يتمثّل في بناء المؤسّسات وتأمين وجود المرافق العمومية الثقافية وانتشارها في البلاد، ارتبط مفهوم مكتبة الحي منذ ظهوره بوجود مدن كبيرة تضمّ عدّة أحياء وتديرها سلط منتخبة تمارس الحكم المحلّي بصلاحيات واسعة في إطار سياسة اللامركزية الإدارية والسياسية المعتمدة في البلدان الديمقراطية. ويقتضي اندماج المدينة تكوين شبكة محلية تربط مكتبات أحيائها تحت إشراف المكتبة المركزية للمدينة. هكذا، يحيل مفهوم الشبكة المحلية على مفهوم سياسة المدينة La politique de la Ville، بينما يرتبط مفهوم الشبكة الوطنية بمفهوم السياسة الثقافية الوطنية الذي سمح في تونس بوجود مكتبة عمومية أو أكثر في كلّ مدينة أو قرية، لكن تحت إشراف غائم لمكتبة تنعت بالجهوية على مستوى كلّ ولاية. والمعروف أنّ الغالبية العظمى للشعب التونسي غداة الاستقلال كانت منتشرة في الأرياف والبوادي، ولم تكن لدينا مدن كبرى كثيرة تبرّر اعتماد خيار الشبكات المحلية ومكتبات الأحياء. وحتّى المكتبات العمومية المفتوحة اليوم وسط أحياء مدينة تونس مثلا، فلا يمكن اعتبارها مكتبات أحياء لأنّها غير مندمجة في شبكة محلّية من أي نوع كان. هذا فضلا عن أنّها لا تمتّ إلى السلطة المحلّية بصلة. فاللامركزية لا تمثّل عندنا خيارا سياسيا وإداريا. والحكم المحلّي لايزال مجرّد مفهوم غائم يناقش في كواليس المجلس التأسيسي. وهذا ما يفسّر عدم إقدام بلديات المدن الكبرى على إنشاء شبكاتها البلدية للمطالعة بالتوازي مع الشبكة الوطنية التابعة لوزارة الثقافة. والمعروف أنّ سياسة المدينة تتأسّس على ثوابت منها المقاربة المندمجة التي تراهن على تكامل المرافق، ومنها كذلك سياسة القرب la politique de proximité. وفي هذا الباب، لا مناص من الإقرار بانعدام ثقافة (بمعنى عقليّة وفلسفة) "القرب الثقافي" في تجمعاتنا السكّانية. ذلك أنّ المرافق الثقافية تظلّ الغائب الأكبر في أحيائنا الجديدة بمترفها وشعبيّها. ومن المغالطة التعلّل بكون الأحياء الشعبية تنبت عندنا كالفقاقيع بشكل يفاجئ السياسيين ومخططي المدن، لتبرير غياب المكتبات وسائر المرافق الأخرى في أحيائنا، لأنّ الأمر مرتبط بغياب عقلية وفلسفة ثقافية بالأساس.
4. جمهور المكتبات ودورها في الحي الشعبي
الجمهور الفعلي: لا نبالغ إذا حصرنا الجمهور الفعلي للمكتبات في التلاميذ (طلبة المدارس). فالإحصائيات تبيّن أنّ 90℅ من روّاد المكتبات الموجودة بالأحياء هم من التلاميذ اليافعين، الذين يقصد أغلبهم المكتبة بغرض مراجعة الدّروس. وبالتّالي فهم لا يتعاطون المطالعة كفعل ثقافي. لكن، من سمات هذه الفئة أنّها تمثّل جمهورا منتظما في تردّده على المكتبة. كما يلاحظ أنّ جنس الإناث يغلب على هذه الفئة من الروّاد وذلك لأنّ الإناث أكثر حرصا من الذّكور على التّحصيل الدّراسي وعلى عدم الانقطاع المدرسي باعتبار الاستمرار في الدّراسة هو الضمانة المثلى للخروج من المنزل دون كبير اعتراض من الأسرة والبقاء على صلة بالخارج دون الالتجاء إلى اختلاق مبرّرات ودون خطر التعرّض إلى مضايقات.  واعتقادنا أنّه من الضروري الوقوف عند خاصّيتي انتظام التردّد وغلبة جنس الإناث واستثمارهما في صياغة سياسة العرض الخدماتي للمكتبات.
الجمهور الاحتمالي: بعيدا بعيدا وراء التلاميذ، نجد بعض الفئات التي لا يسمح ضعف عددها بتصنيفها ضمن الجمهور الفعلي. ثمّ تأتي فيما بعد فئة المستهدفين الذين لا يرتادون المكتبة بالمرّة. ففي المجموعة الأولى من هذا الجمهور الاحتمالي، نجد رجال التّعليم والموظّفين والمتقاعدين والنّساء القابعات في المنازل من المتزوّجات والعازبات، وهم في أغلبهم مشتركون بالمكتبة يفضّلون الاقتصار على استعارة الكتب دون المكوث بفضاء المكتبة للمطالعة. وبرأينا، فإنّه بالإمكان الانطلاق من هذه القلّة التي ترتاد المكتبة لفهم خصائص هذه الفئة من الجمهور ومن ثمّة العمل على توسيعها بتنويع العرض الخدماتي وتكييفه لحاجاتها. ذلك أنّه من الضروري تحليل نسبة تردّد هؤلاء الأنفار على المكتبة وأوقات الزيارة وأسباب الاقتصار على الاستعارة دون المكوث والغاية من الزيارة (مطالعة على عين المكان أم إعارة أم متابعة المحاضرات وحضور التظاهرات التنشيطية كالمعارض وغيرها) ومحاور الاهتمام وأنواع الوثائق المطلوبة والسلوك داخل فضاء المكتبة (هل يحبّذون الانزواء أم الجلوس في طاولات جماعية؟ هل يتواصلون مع القرّاء الآخرين أم لا؟ هل يطلبون مساعدة الأعوان أم يتصرّفون بشكل مستقل؟) ونتيجة الزيارة (هل يجدون ما يطلبونه أم لا؟) وردود الفعل عند عدم تلبية الحاجة، الخ. أمّا من تستهدفهم المكتبة بخدماتها ولكنّهم لا يرتادونها، فنعني بهم شباب الأحياء. فهل يعود سبب عزوفهم إلى عدم تطابق العرض الخدماتي مع حاجاتهم؟ وهل ترانا نعرف حاجاتهم أصلا؟ أم أنّ العزوف يعود إلى تقصير في الدّعاية للعرض والتعريف به؟ ولعلّ الخطوة الأولى على طريق تشخيص حاجاتهم بدقّة تتمثّل في التعرّف على خصائصهم الاجتماعية والنفسية والسلوكية. والملاحظ أنّ سلوك أبناء الحي في محيطهم، بكل ما يضمّه من مرافق عمومية، يتميّز بنزعة تملّكية[7]. فهم يتحرّكون في محيط عمراني واجتماعي يعرفونه جيّدا ويعلمون عنه كلّ كبيرة وصغيرة وهو ما يزرع فيهم الشعور بالسيادة على ذلك المحيط والاطمئنان من كل المفاجآت والإحساس بكونهم أصحاب الحق المطلق والأولويّة التي لا تحتمل التشكيك أو الطّعن. وليس هذا معيبا في ذاته لولا أنّه يشجّع البعض على إتيان تعدّيات على المرافق وتجاوزات لضوابط العيش المشترك، حتّى أنّ بعض الأحياء كثيرا ما تتحوّل إلى مناطق خارجة عن القانون des zones de non droit. وهي تصرّفات لا يؤتيها أصحابها خارج الحي لخوفهم من العقاب. يزور شباب الحي المكتبة بشكل عرضي رغم كونهم يعيشون في محيطها المباشر. ولا تتجاوز علاقتهم بهذا الفضاء ذي الرمزية العالية مجرّد كونه نقطة دالّة في قلب الحي تساهم في هيكلته الجغرافية وفي إيقاع الحركة والحياة داخله. هي علاقة من الخارج سمتها الإقصاء الذّاتي ولكنها في نفس الوقت ليست علاقة قطيعة وتجاهل كما قد يتبادر إلى الذّهن. فالمكتبة هي المرفوض المرغوب وهي المنبوذ المحبوب. والدّليل تجمهر الشباب في محيطها والدّخول إلى ساحتها واللعب فيها ومشاكسة روّادها ومدّ الأعناق للتطلّع عبر نوافذها إلى الدّاخل واستعمال دورة مياهها للاغتسال والاستراحة. وليس من المفيد لأحد تجاهل مجموعات الشباب المتحلّقين في محيط المكتبة بداعي أنّها مفتوحة للعموم وما على هؤلاء الشباب إلاّ تخطّي أعتابها متى شاؤوا. فالمشكل كلّ المشكل هو في صعوبة القيام بتلك الخطوة باتّجاه المكتبة. لأنّ المسألة مرتبطة بالتمثلات التي يحملها الشاب عن المكتبة والتي تحدّد سلوكه إزاءها. فالأمر سيختلف بين أن يتمثّل الشاب المكتبة فضاء مدرسيا أو ناديا للتسلية أو مؤسّسة ثقافية أو مؤسّسة إدارية أو مركز معلومات عملية. ويؤكّد بعض الباحثين ممّن درسوا علاقة شباب الأحياء بالمكتبات في المدن الفرنسية، أنّ الاعتراف بوجود المكتبة يتمّ لحظة لا يصطدم الشاب الذي يطأ المكتبة للمرّة الأولى بالصدّ مهما كانت غايته[8]. إنّها لحظة نفسية وتواصلية حسّاسة جدّا، لأنّ الشاب لحظة تجاوزه عتبة هذه القلعة المتمنّعة تحرّكه نوازع شتّى. فهو من ناحية يريد إثبات سلطانه في الحي وأن لا شيء يقع خارج إرادته ولكنّه في ذات الوقت يريد اختبار قدرته على ترويض هذا الفضاء العصيّ الذّي يذكّره بالمدرسة بما تعنيه في ذهنه من فشل. يبحث الشاب وهو يخطو خطوته الأولى داخل فضاء المكتبة، بشكل متوجّس ومغلّف بثقة مصطنعة تفضحها ردود فعله المتوتّرة، عن القبول من خلال معاملته بشكل عادي لا يميّزه عن الآخرين. وبلغة أخرى، يريد أن يحسّ بأنّه لا يثير الرّيبة والاحتياط. ومن هناك يستعيد توازنه وثقته بنفسه. من هنا نتبيّن حساسيّة دور المكتبي في مجال ربط الصّلة بين المكتبة وجمهورها داخل محيط الحي الشعبي، خصوصا وأنّ صورة المكتبي لدى الجمهور تتشكّل بناء على جملة من الأفكار المسبّقة الرّائجة حول هذه المهنة والتي تأتي تصرّفات المكتبي وسلوكه لتؤكّدها أو تنفيها. ومن شروط نجاح المكتبي توفّقه في الاندماج داخل محيط الحي الشعبي الذي يعمل به وقبول السكّان له بوصفه واحدا منهم. وليس ذلك بالأمر اليسير. ولعلّ ما يسهّل قبول المكتبي لدى الجمهور إقامته في الحي الذي يعمل به، تماما كالمعلّم، وألاّ يخلط بين العلاقات الودّية والشخصية. فالمكتبي النّاجح هو الذّي لا يتعاطى مع التّجاوزات الصّادرة عن شباب الحي بمنطق مخابراتي أوّل ما يفكّر فيه هو المسارعة بتحرير الشّكاوى والتّقارير إلى السّلط الأمنيّة والإدارية حالما يتخاصم مع أحدهم أو كلّما اكتشف بقايا أكل في بهو المكتبة عند الصباح. وليس الحل كذلك في التعامل مع مثل هذه الوضعيات بخطاب وعظي عقيم نتيجته الوحيدة هي مزيد تعميق الشرخ بين المكتبي وشباب الحي، وإنّما في استثمار ما تنطوي عليه شخصيات هؤلاء الشباب من طاقة وتحويلها من طاقة سالبة إلى طاقة إيجابية وخلاّقة، وما يرشح عن تصرّفاتهم من رسائل مشفّرة، كالإحساس بالألفة إزاء فضاء المكتبة أو الرغبة في التحدّي، الخ. ومن ثمّة، توفير فرص يتلقّفها هؤلاء الشباب لتصريف سلوكاتهم ثقافيا وفنّيا، من خلال السّعي إلى الاقتراب أكثر فأكثر من كلّ شخص ونسج علاقة معه على المقاس تجمع بين الصرامة والاستعداد اللامشروط للإنصات والتعاون. لكن، يجب الحذر من إعطاء صورة المؤسّسة الضعيفة المستكينة إلى الأمر الواقع واللاّهثة وراء كسب ودّ هذا الشباب الجسور حتّى تأمن أذاهم. وغالبا ما يسهّل وجود شخص من أبناء الحي ضمن فريق العمل مدّ جسور التواصل بين المكتبة وجمهورها. بل لعلّ هذا من شروط نجاح المرافق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في محيط الأحياء الشعبية. ففي فرنسا مثلا ساهم تعيين مراقبين من الأحياء الشعبية في المساحات التجارية الكبرى وفي وسائل النقل في الحدّ من التجاوزات. فهؤلاء الأعوان يعرفون الشبان بالاسم وتربطهم بهم علاقات جوار وقرابة تساعدهم على تأطيرهم. فهم يعرفون أسرهم وقيمهم وردود فعلهم وحاجاتهم ونقاط ضعفهم ومواهبهم الكامنة. هذا فضلا عن المكاسب المنجرّة لأعوان التّأطير أنفسهم بما أنّ تشغيلهم ينتشلهم من الهامشية والبطالة ويحمّلهم مسؤولية هم بها أجدر ولها أنجع. كما نؤكّد على أهمّية التعويل على جمعيات المجتمع المدني وتكليفها بمهام التأطير الاجتماعي وتنشيط الحياة الثقافية والرياضية بالحي الشعبي. وقد أثبتت التجارب أنّه كلّما وضعت السلط ثقتها في نسيج المجتمع المدني ودعّمته بالوسائل في إطار سياسة تعاقدية حول أهداف واضحة، إلاّ وكانت تلك الجمعيات في مستوى ما ترفعه من تحديات وما ينتظره منها مجتمعها المباشر.
خاتمة
وفي الختام، ننبّه إلى عبثية استنساخ تجارب المجتمعات الأخرى. فلا يذهبنّ في الاعتقاد إلى أنّنا ننادي بالتفويت في مكتباتنا العمومية لهيئات الحكم المحلّي التي ظلّت طوال ستين سنة مخنوقة تحت وطأة المركزية وتعاني من ضعف الموارد. هذا فضلا عن أنّه لا أحد يضمن أن تنزّل المجالس المحلّية المنتخبة الثقافة والكتاب منزلة الأولوية. فقد لا تمثّل المكتبات ورقة انتخابية مربحة في نظرهم. وقد يتحوّل الكتاب إلى أداة دعاية وتوجيه إيديولوجي. ولنا عبرة في التجاوزات التي أتتها المجالس البلدية الموالية للجبهة الوطنية بفرنسا بعد فوزها في الانتخابات البلدية بمدن الجنوب الفرنسي كفيترول ومارينيان وطولون وأورونج سنة 1995، حيث عمد المستشارون البلديون إلى توجيه الاقتناءات وممارسة الرّقابة. ولكن علينا الإقرار أنّه بقدر ما شكّلت مركزية إشراف وزارة الثقافة حماية لمكتبات المدن الصغيرة والقرى، فقد أضرّت بواقع المطالعة والمكتبات بالمدن الكبرى وعلى رأسها تونس العاصمة، نظرا لغياب مكتبات الأحياء والشبكات المحلية. ولعلّ الوقت قد حان كي تتحمّل البلديات الكبرى مسؤولياتها في بعث شبكات محلية من مكتبات الأحياء، لا تعوّض مكتبات وزارة الثقافة ولا تنافسها، وإنّما تكون أقرب إلى مراكز المعلومات والخدمات المندمجة، توفّر الترفيه والمعلومة الإجرائية والتأطير الاجتماعي، الخ. وقد صار في هذه اللحظة التي تعيشها تونس، لا فقط من حقّنا بل من واجبنا أن نحلم بمثل هذه المراكز المندمجة التي توفّر إضافة نوعية على مستوى الرّفاه بما يشجّع على ارتيادها وتمضية أطول ما يمكن من الوقت بين جدرانها، وكذلك على مستوى الفلسفة والرّسالة الموكولة إليها. إنّ هذه المراكز مدعوّة إلى أن تتموقع في نقاط التمفصل بين ثلاثية الشارع والمدرسة والبيت لتملأ الفراغات الناتجة عن تجاهل مكوّنات هذه الثلاثية لبعضها البعض وتمدّ الجسور بينها. إنّ بقاء الفجوة قائمة بين هذه الفضاءات الثلاثة داخل الحي مخلّ بالتوازن الفردي والاجتماعي إلى حدّ بعيد ولا نرى أفضل من مكتبة الحي (مركز المعلومات المحلّي) مؤهّلا لرأب هذه الهوّة من خلال تكريس الحق في المعلومة الذي وقع تكريسه صمن منظومة حقوق الإنسان الأساسية. ففي مثل هذا الفضاء تتجاوز الفئات الاجتماعية فوارقها وتتجاور وتتحاور وتبرمج الأنشطة بكامل الحرّية، مكرّسة من خلال ذلك مواطنتها.




[1]  انظر: بن يدّر، كريم. - الحرف والحرفيون بمدينة تونس خلال القرنين 18 و19، تونس، مركز النّشر الجامعي، 2007، صص. 64-75
]2[  - القجمي هي لغة مشفّرة يستعملها أبناء الحي الشعبي بينهم للتورية على نشاطهم حيث يتحدّثون بها أمام الغريب فلا يفقه منها شيئا
[3] Cf. David J. Harding, Michèle Lamont, Mario Luis Small, dir., Reconsidering Culture and Poverty, The Annals of the American Academy of Political and Social Science, Vol. 629,May 2010
[4] - تستعمل عبارات من نوع underground culture  أو Culture sous-terraine لترجمة مصطلح ثقافة الهامش.
[5]   - صدر المقال الذي يعرض هذه النظرية لأوّل مرّة سنة 1943 تحت عنوان " A Theory of human motivation" وبعد ذلك تتالت الكتابات التي تتناول هذه النظرية وتحلّلها. ومن أهمّها كتاب هارولد ماسلو Motivation and Personality الصّادر سنة 1954 والمترجم إلى الفرنسية سنة 1970 تحت عنوان Devenir le meilleur de soi-même
[6]  - هذه المفهوم للمكتبة المحلّية مكرّس خاصّة في البلدان الأنقلوسكسونية حيث يسمّونها Local Information Center
[7] - انظر حول سلوك شباب الأحياء وعلاقتهم بالمكتبات مقال:
MERKLEN, Denis & MURARD, Numa. - «Pourquoi brûle-t-on des bibliothèques ? Violences sociales et culture de l’écrit», le 7 janvier 2008, In :La vie des idées, http://www.laviedesidees.fr/Pourquoi-brule-t-on-des.html, (Consulté le 10 février 2013)
[8] MERKLEN, Denis & MURARD, Numa. –Op. Cit.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى