حبّ فريد

أخيط أروقة الفضاء التجاري جيئة وذهابا أقلّب النّظر بين السلع المكدّسة بإغراء فاحش في الأروقة كمومسات المبغى. الدينارات العشرون التي أحتكم عليها لا تفي بالحاجة لشراء هديّة ترضي الحبيبة في عيد ميلادها. يعييني البحث وتقودني قدماي إلى رواق المشروبات الكحولية، حيث تلمع الفتوى كالوحي في الدّماغ: "بعض قوارير خضر يزهر بها الخيال وتفكّ عقدة اللسان، وسينساب الكلام معسولا فيكون أفضل هديّة للحبيبة في عيد ميلادها." 
أقف في الطّابور لخلاص قنّيناتي وأتسلّى بتحليل المشتريات المكدّسة داخل العربات المجرورة. تشدّني بالخصوص نظرات الرّضى الغبيّة المرسومة على عيون الزبائن وهم يفرغون مشترياتهم على الجلد الدوّار بتأنّ في حركة استعراضية كلّها زهو وتطاوس بما رزقهم الله من نعيم... يتظاهرون بالانهماك في جمع مشترياتهم في أكياس البلاستيك غير عابئين بمن حولهم وهم يرمقون بطرف العين بضاعة الآخرين مقيّمين مركزهم الاجتماعي ووجاهتهم من خلال مقارنة حجم مشترياتهم بمشتريات الغير. لكنّهم يختمون جميعا الاستعراض بحركة تكشف حقيقتهم العميقة عندما يسرقون لفّة بحالها من أكياس البلاستيك لاستعمالها كأكياس قمامة.... وأنا في كل ذلك أقاوم التردّد بحساب الفارق بين ثمن القنينات هنا وعند بائع الحيّ.
أدخل البيت فأجد فريد الذي يقاسمني الشقة وهو في وضع الانبطاح مشغولا بحلّ شبكة الكلمات المتقاطعة. فريد من جهة يعرف أهلها بالكدّ والجهد وحسن التّدبير. لست أعرف ما الذي جمعني أنا الجريدي المبذّر الفوضوي بهذا الكائن الهندسي. هي الزّمالة في المكتبة العمومية لا أكثر وحبّنا لهذه المهنة الذي ورثناه من كتب القراءة في الصف الابتدائي. يبتسم فريد إذ يسمع قرقعة زجاج القنّينات، فأبادله الابتسامة. فريد لا يكره الشّرب ولكن يؤلمه أن يصرف ماله في هذا الباب. يعضّ على قلبه ويخرج لجلب ما تيسّر من اللّوز المحمّر من عبد الستّار بائع الفواكه الجافّة.
فريد مغرم بشراء الهدايا، مرّة تحفة وأخرى وردة وأخرى لوحة وهذا كتاب وتلك زجاجة عطر، والكلّ ملفوف بعناية في ورق الهدايا اللمّاع ومربوط بتلك الأشرطة الملوّنة... يكدّس هداياه في ركن من الشقة التي نتقاسمها وينفض عنها الغبار صباح كلّ أحد ويفتح لها النّافذة ليغمرها النّور... سألته ذات مرّة "لمن كلّ هذه الهدايا العالقة؟" فأجاب ببراءة الأطفال: "أشتريها في انتظار أن أتعرّف على حبيبة، هكذا تكون هداياي حاضرة. على أيّة حال لا شيء يمنعني من أن أحبّ حبيبتي قبل أن أعرفها، فهي بالأساس حلم وفكرة، سأحبّها بالتّاكيد أقلّ عندما أعرفها. وسأحدّثها لمّا أتعرّف عليها عن وحدتي ووحشتي وغربتي، وسأقول لها تخيّلتك بالضبط كما أنت في الواقع."
كان الوقت عشيّة رائقة وكانت عندي شظايا افكار أريد أن أحدّث فريد بشأنها، لكنّه نام منذ القنينة الرّابعة. ولم أفرغ من قنّيناتي العشر إلاّ وقد تملّكتني الفكرة وصارت في ذهني واقعا ملموسا. لبست حذائي وخرجت للقاء حبيبتي.
لمّا قابلتها، هنّأتها بعيد ميلادها وناولتها الصندوق الذي لم أكن أعرف ما به. فتحته بلهفة وسحبت زجاجة عطر ومعها بطاقة كتب عليها: إليك حبّي في عيد الحب، فريد" نظرت إليها معلّقا بكامل الثقة: عيد ميلادك هو عيد الحب بالنّسبة لي. أنا فريد وحبّي لك فريد ما له من مثيل." عانقتني معلّقة "كلامك في غاية الرّقة وذوقك رفيع يا حبّي الفريد."

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى