حساب قديم

نزلت بالمطار عائدا ككلّ صيف من بلاد الغربة، وأخذت مكاني في الطّابور أنتظر ختم الجواز من شرطة الحدود. قبلي بشخصين أو ثلاث، وقف أمام العون شيخ لقي حفاوة خاصّة. سمعت العون يقدّم نفسه للشيخ بوصفه أحد تلاميذه أيّام كان أستاذا بمعهد قريته، وسمعت الشيخ يقول للعون أنّه عائد لتوّه من الأراضي المقدّسة حيث أتمّ العمرة... وكان ذلك كافيا لأتعرّف على العون التلميذ وعلى الشيخ أستاذه. طلب العون من زميل له أن يعوّضه حتى يرافق الشيخ أستاذه ويسهّل عليه إتمام إجراءات الدّخول. وبقيت أنتظر دوري في الطّابور، واليقين ينهشني بأنّ الأقدار هيّأت لي فرصة تصفية حساب قديم... سأكون غبيا وجبانا لو فوّتت هذه الفرصة. فمثلها لا يتاح إلاّ مرّة واحدة في العمر.. لم أكن أعرف بالضبط ما الذي سأفعله وسأقوله عندما ألحق بهما. كلّ ما كنت أعرفه بيقين حدسي هو أنني سأتحدّث إليهما، وخصوصا إلى الشيخ الأستاذ المعتمر...
باختصار شديد، كان العون زميلا لي أيّام الدّراسة الثانوية، وقد فصلت من الدراسة بالمعهد بسبب احتجاجي على محاباة ذلك الأستاذ له. كنت رفضت أن يمنحه الأستاذ نقاطا إضافية لمجرّد أنّه أخ فلان. فاستشاط الأستاذ غضبا وهمّ بصفعي. لكنّني أنزلت له يده المرفوعة بحزم، حتى لا يهينني أمام زملائي وحبيبتي. وكان أن أحلت على مجلس التأديب بتهمة تعنيف أستاذي والتطاول عليه، فقرّر المجلس الموقّر طردي من جميع معاهد البلاد، كما لو كنت قد أضرمت النار في المعهد.
صدمني قرار الطّرد وأصابني بالانهيار لأنّني كنت واثقا من رأفة مجلس التأديب، بعدما عملت بنصائح أساتذتي فلم أجادل أعضاء المجلس الموقّر واعترفت بكلّ ما نسب لي ممّا فعلته ولم أفعله، وعبّرت عن ندمي وطلبت التخفيف في الحكم ومراعاة وضعي النفسي والاجتماعي...
تسلّمت قرار الطّرد وقفلت راجعا إلى بيتنا في الدوّار البعيد عن مركز المدينة بخمس كيلومترات... وظللت طوال الطريق عاجزا عن حبس دموعي التي كانت تسيل في صمت وأنا مذهول كيف لم ينصت المجلس إلى توسّلاتي وكيف لم يحسّ بصدق ارتجافاتي... وبين الفينة والأخرى كنت أسحب قرار الطّرد لأقرأ وأكرّر عبارة "من كامل تراب الجمهورية" كما لو كنت أريد التأكّد منه. فيسيطر عليّ الإحساس بأنّه قرار نفي من البلاد... ويصيبني الرّعب من الفراغ الذي ينتظرني... ثمّ يكبر رعبي أكثر وأنا أتخيّل لوعة أمّي وكمد أبي... صحيح أنّني لم أكن أعشق الدراسة ولكنّ المعهد هو حياتي كل حياتي. فيه الأصدقاء والمغامرات والحبيبة والذكريات... فكيف يتبخّر كل هذا بجرّة قلم وفي لمح البصر؟... ولم أصل بيتنا إلاّ وقد حسمت أمري. هي الهجّة ولا حلّ غيرها. ولكن، عليّ أن أعمل لأجمع ثمن التذكرة ومصروف الجيب. وكان صيفا مع المرمّاجية من أولاد البلاد، في حضائر البناء لما سيصير مدينة ياسمين الحمّامات السياحية...
ختم العون جواز السفر ولحقت أبحث عن الشيخ الأستاذ المعتمر، فلم أظفر له بأثر...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى