اللغم

كم يبدو للبرني بعيدا ذلك الزمن القريب من فرط ما اشتاق إليه... ضحى يوم ربيعي رائق، والشمس متألٌّقة كامرأة لعوب تغمز بشعاعها الفضي المتسلّل عبر جذوع أشجار الفلّين تلك الروابي المكسوّة بالحشيش والنوّار... نحل يتنقّل بين الأزهار يترشّف رحيقها تحت مراقبة الفراش المرفرف كملائكة الجنّة، وصراصير سكرى بالروائح والندى تعربد في مخابئها... صبيّة تنشر الغسيل فوق السطوح وأختها تشرع النوافذ فيضوع من البيت صوت فيروز كالرّائحة ويسري ليلفّ المدى كضباب الفجر... هناك بعيدا في أسفل الوادي، عجوز تصعد التلّة وهي تنوء تحت حمل الحطب الذي جمعته... جلجل الحصان يرنّ بقوّة كناقوس كنيسة في كورسيكا، كلمّا نفض الحصان التبن من على رقبته اللمّاعة المكسوة بشعر ناعم... رائحة خبز التنّور تتقاطع مع صوت فيروز فتضطرب الحواس وتختلط عليها وظائفها حتى يختصم الأنف والأذن والعين...
سحب البرني نفسا من جونتة الحشيش وهو يتّكأ على صخرته تحت شجرة الكالاتوس حيث اعتاد أن ينتظر وصول الحمار المحمّل بالسلعة التي يشحنها "الخاوة في الدزاير" عبر المسلك الغابي الذي تدرّب عليه الحمار جيدا حتى حفظه وصار يروح ويجيء محمّلا ب"الكونترة" دون مرافق... أعشى عينيه كّأنّما ليمسح بعض التفاصيل من المشهد الحالي ويستبدلها بأخرى يستدعيها من الذاكرة، ثمّ أطلق زفرة حمّلها كلّ مكنونه من الحنق على الوقت العاكس... لم يعد البرني يتعرّف على هذه الأرض التي ضيّعت عاداتها وسحرها وفراشها وصراصيرها منذ حادثة انفجار اللغم الذي مزّق الحمار أشلاء فانقطع معه باب الرّزق. صار يخشى المشي فوق هذه الأرض التي لم تعد آمنة كما كانت دوما حتى أنّ جدّه المرحوم الجيلاني كان يردّد أنّ اللّه تعوّد أن يستريح في أرضهم كلّما أرهقته حماقات خلقه ولؤمهم.
بعد حادثة اللغم بيوم، استيقظ أهل المنطقة على وجود كتيبة عسكرية مجهّزة بكاسحات ترابية تشقّ طرقا عريضة في جوف الغابة وتقطع الأشجار وتحرق مساحات شاسعة من النبات الغابي وتبني مراصد وتطوّق مناطق كبيرة بالأسلاك الشائكة... قال قائد الكتيبة وهو يترشّف كأس الشاي في اجتماع بالأهالي تحت ظل الكالاتوسة "نحن نأسف لهذا الإزعاج، ولكن هناك جهاديون يختبؤون في هذه النواحي. لقد اتّصلوا بالحاج العروسي ليمدّهم بالمؤونة وهدّدوه بالذبح إن هو أفشى الأمر. لكن الحاج خيّر إعلامنا وسنؤمّن له الحماية الكافية. سنفتح مركز مراقبة متقدّم في أعلى التلّة، ونطلب منكم مساعدتنا بالإبلاغ عن أي حركة مشبوهة أو أشخاص غرباء." 
قالت عمتي عيشة "لم يحصل معنا هذا حتى في وقت فرانصا، عندما كان الجدارمية يطاردون الفلاّقة. لم يحرقوا الأشجار ولا منعونا من جمع الحطب ورعي الماشية بتسييج مناطق وإغلاقها. ولكن ليكن الله في عونكم ويحميكم من كل مكروه يا حضرة الضابط"
هكذا فقدت الحياة نكهتها في تلك المنطقة بعدما شحّ الرّزق وعزّ الحشيش وهجّر دخان الحرائق النحل والفراش والصراصير، وكفّ الرعاة عن اقتياد القطعان إلى تلك المناطق، ووجد البرني نفسه مختنقا بوجود العسكر مقرفصا طول الوقت كتمثال تحت الكالاتوسة شاخصا ببصره في أرجاء المنطقة المنكوبة، متسائلا إلى متى سيظل الحال على ما هو عليه.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى