من نافذة الغرفة 226



عند منتصف نهار ذلك السبت الجويلي القائظ، كانت السيارات مجرّد صفائح معدنية متماوجة تتحرّك بالكاد في دوّار باب سعدون ... وكان الدوّار يبدو من نافذة الغرفة 226 بالطابق الثاني من مستشفى الأمراض السرطانية كبالوعة صرف صحي عملاقة في يوم ماطر، تجذب السيارات نحو مركزها المتمحور حول الأقواس الثلاثة لباب سعدون، كما تفعل الرحى مع حبات القمح، تهرسها وتطحنها ثم تلفظها من جوانبها.
رنّ الهاتف فوجدت صديقي كمال على الخط يستفسرني بصوته الأبح عن رقم غرفة عشيرنا ويعلمني بأنّه قادم على القدمين بعدما ترجّل من سيّارة التاكسي العالقة في الدوّار. لوّحت له بيدي من شبّاك الغرفة ليس طمعا في أن يراني وإنّما محاولة مضطربة منّي لإدخال شيء من المرح وكسر وطأة الألم البارك على غرفة عشيري والموت المعشّش في جدرانها وزواياها وستائرها... وكأنّ عشيري قرأ ما في ذهني، فناولني اللحاف الأبيض لسريره قائلا على طريقته المعهودة في دفع الأمور إلى أقصاها "لوّح له بالعلم الأبيض وسيفهم"... أخذت اللحاف وجعلت ألوّح به بعنف كأنّني أريد أن أنفض عنه بعضا من الموت. وما كدت أفعل حتّى رأيت كمال يردّ برقصة زوربا بين السيّارات. كانت تلك طريقته في السلام على عشيري والرّفع من معنوياته. ولكن كان من الواضح أنّها رقصة ديك مذبوح يداري بها مكابرا وجعه وهزيمته أمام الموت. كان وهو يراوغ السيارات راقصا كما لو أنّه يدعو عشيري إلى النسج على منواله في مراوغة الموت..
انتابتني الرّغبة أن أشارك كمال رقصته تلك، فدعوت عشيري إلى النافذة ونزلت الدرج وأنا أصفّ العتبات ثلاثا ورباعا... لمّا وصلت جهة كمال، رفعت رأسي باتجاه الغرفة فلمحت اللحاف الأبيض يرفرف كالعلم بيد عشيري المنتصب في النافذة كنخلة شامخة. وجنب كمال كان هناك سائق سيارة تاكسي يلقي السباب والريق الأبيض مرسوم على شفتيه كرغوة الصابون. رأيت في عينيه شرّا نبّهت كمال منه، لكنّه واصل رقصته وهو مغمض العينين وقال لي "لا تستوي رقصة الموت والحياة إلاّ بحضور عزرائيل... لا تعره اهتماما، وانظر هناك عاليا عاليا ناحية اللحاف الأبيض"...
ولم أفق من رقصتي إلاّ على صرير عجلات سيارة مجنونة تريد الانطلاق بقوّة بعدما انفتح أمامها مسرب أغلقه كمال الراقص... كان شرطي المرور الأسمر البدين يمسكني من مرفقي ويهزّني بعنف وقد كساه العرق ليوقظني من تخميرتي. فحّجت أعصاب عينيّ حتّى يمكنني أن أوزّعهما واحدة باتجاة نافذة غرفة عشيري الذي توقّف عن التلويح بلحافه الأبيض والأخرى باتجاه الإسفلت الطري حيث انطرح كمال وتناثرت حوله باقة الأزهار التي جاء بها لعشيري...
ونحن نغادر غرفة كمال ليلا في مستشفى الكسور وجبر العظام، سمعني وأنا ألوم عشيري على هربه من غرفته بالمستشفى وأطلب منه أن يعود إليها فورا، فأجهد كمال نفسه ليطلب منّا التوجّه إلى حانة لونيفار لنرفع كأسا على نخب الحياة... لم أكن أدري أنّ الجلطة ستفاجئني وأنا على مقصف الحانة.

قربة في 26 أوت 2014

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى