شكرا حضرة البروفسورة



شكرا لزميلتي الباحثة اللامعة والبروفسورة ذائعة الصّيت ذات الأخلاق الجامعية العريقة جدّا، لأنّها جرجرتني أمام المحاكم ومرمطتني أمام القضاء في أيّام العيد (والثابت أنّ زميلتي البروفسورة الجامعية تفضّل عبارة "مرمدتني" لأنّ منسوب التشفّي فيها أرفع)
شكرا لزميلتي البروفسورة اللامعة التي لا يشقّ لها غبار، صاحبة الفضل في تقدّم العلم والمعرفة في اختصاص علوم المعلومات بكل فروعها، على تخصيصها حيّزا من وقتها الثمين الذي نذرته للبحث وإنتاج المعارف، لمتابعة من تطاول على كرامتها لمجرّد أنّها رفعت عريضة سرّية لم تشأ أن تزعج أغلب زملائها بدعوتهم إلى توقيعها واكتفت بثمانية منهم فقط من أصل اثنين وثلاثين
شكرا لزميلتي البرفسورة الجامعية اللامعة على تمكيني من فرصة أن أكون عبرة لمن تحدّثه نفسه بالوقوف في وجه البروفسورات الذين يتّهمون زملاءهم بالتزوير دون أن يقدّموا أيّ إثبات، فمتى كان البرفوسور في حاجة إلى إثبات ما يقول؟
شكرا لزميلتي البرفسورة الجامعية جدّا لأنّها أعادتني إلى أروقة المحاكم وقاعات جلساتها من موقع اللاعب الأساسي بعدما أدمنتها في مراهقتي من موقع المتفرّج وأنا التلميذ المقيم بمعهد قفصة. كنّا جمعا من التلاميذ الدّاخليين نهرب من قاعات المراجعة الباردة كلّ خميس لنلتحق بقاعة الجلسات الدافئة بالمحكمة الابتدائية بقفصة فنتسلّى بمتابعة القضايا منبهرين بمرافعات الدفاع وبالحجاج القانوني فنتربّى على المنطق وترويض الكلام ومعالجة الأفكار. كنّا نحلم أن نصير ذات يوم قضاة أو محامين نتبختر في تلك الجلابيب السوداء من السّاتان اللّمّاع التي تتدلّى من أكتافها شالات تنتهي بتيجان من الفرو الأبيض النّاعم.
شكرا لزميلتي البروفسورة الجامعية التي أتاحت لي فرصة العودة إلى قاعات المحاكم بعد 14 جانفي لألمس عن كثب تفاصيل عالم القضاء.
قاعة ضيّقة تتدلّى من سقفها العالي كمشنقتين مروحتان كهربائيّتان غطّى ناعورتيهما البلاستيكيتين الغبار حتى استحال لونهما من الأبيض إلى الأسود، عمود من الإسمنت المسلّح ينتصب وسط القاعة رافعا السقف الفسيح وشاطرا القاعة نصفين ليحجب كرسي رئيس الجلسة عن بعض الحاضرين. عنكبوت يعشّش في زوايا السّقف العالي. مصدح عديم الجدوى يشوّه صوت رئيس الجلسة. قناة بلاستيكية لتصريف المياه ملاصقة لأجد زوايا القاعة تحدث فحيحا كلّما استخدمت طرّادات الماء في الطابق العلوي فتبدو في لونها الدّاكن وصوتها المزعج كثعبان يسكن الفضاء. شعار الدّولة التونسية في معلّقة ضخمة بما لا يتناسب مع مساحة الجدار وراء منصّة هيئة المحكمة التي ركّزت على مصطبة من الخشب المتواضع.
يدخل الحاجب بحزمتين كبيرتين من الملفّات يعقبه ضابطان ساميان تلمع النجوم على أكتافهما. يلفّ الهدوء المفاجئ القاعة وأنتظر سماع تلك الصرخة المدوّية "محكمة" ولكنّها لا تأتي. فجأة يقف المحامون المصطفون في الصفين الأمامين وتدخل القاعة القاضية بخطى ثابتة وواثقة تتبعها كاتبة الجلسة وكلاهما في الرّوب الأسود اللّمّاع. تخترقني قشعريرة من فروة رأسي إلى أخمص قدميّ. أسأل نفسي في السّرّ "ماذا دهاك؟ هل أنت خائف؟" يجيبني الآخر الذي يسكن في أعماقي "أبدا، بل أنت فخور بترؤّس امرأة لهيئة المحكمة" فعلا، أنا فخور بأنّني تونسي
يلتفت نحوي الأستاذ المحامي الشاب المعروف في الأوساط الحقوقية، ويعمزني ملوّحا بإبهامه مشجّعا ومطمئنا. تشدّ زوجتي الحامل على يدي وترفعها برفق لتضعها على بطنها كأنّما تريد من سندة التي ننتظرها بعد شهرين أن تشاركنا اللّحظة. تتولّى القاضية مناداة المتقاضين وتدير الجلسة باقتدار يبهرني ويجعلني أنسى سبب وجودي هناك. يأتي دوري فأقف مستجيبا وأمثل أمام هيئة المحكمة. والحقيقة أنّني فوجئت بذلك المكان المخصّص للمدّعى عليه. متر مربع يسيّجه من جهات ثلاث خشب على علوّ متر، يدخله الشخص من الجهة المفتوحة ويقف في مواجهة القاضية. أجد نفسي موزّعا بين خواطر شتّى. "ماذا لو عنّ للقاضية أن تدينني؟ ماذا لو قلت كلاما لا يجوز قوله؟ لماذا أنا هنا؟ نعم حلمت أن يكون لي ذات يوم مكان ما في مثل هذه القاعة إلاّ هذا المكان." يأتيني صوت القاضية وهي تعيد سؤالها لتوقظني من شرودي... أتمالك نفسي وأنطلق في إجابتها بما يليق بمقامها ولا يخرج عن إطار السؤال. وفي الأثناء، كنت أتساءل في سرّي عن الوقفة الأوفر احتراما لهيبة القضاء وعدالة المحكمة: "هل أنتصب مكتوف اليدين؟ هل أتّكأ على السياج الخشبي الواطئ أمامي فأبدو في هيئة انحناء مذلّة؟ أم أرفع رأسي وأدفع صدري إلى الأمام؟" تسعفني القاضية بسؤال يعيد إليّ تركيزي. ولكنّني ما إن أشرع في الإجابة حتّى أتوه في خواطري الجانبية من جديد: "كيف يتقبّل الحضور مثل هذه القضية التي تفوح منها رائحة سياسية؟ هل القاعة متعاطفة معي؟" ينفذني من ضياعي إحالة الكلمة إلى لسان الدفاع للمرافعة. ومرّة أخرى أحس بالفخر. فالأستاذ الشاب مبهر، لبق، فصيح، منهجي، ثابت.
أقول في سرّي "شكرا أيّها الزميلة البروفسورة الجامعية اللاّمعة على هذه اللّحظة التي أهديتنيها" تخاطب القاضية صفوف المحامين متسائلة عن وجاهة موقف نسب لي في ملف القضية، فيأتيها الجواب بالإجماع مساندا لي في شكل سمفونية نحتها بإبداع سلك المحاماة التونسي المناضل.
تعاودني القشعريرة ذاتها من فروة الرّأس حتى أخمص القدمين، ويغمرني الفخر بكوني تونسيا.
شكرا لزميلتي البرفسورة الجامعية اللامعة على كل ما فعلته

جلال الرويسي منوبة في 4 أكتوبر 2014

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى