منظّفـــة السينما

تصدير أوّل: "انتهى كلُّ شيء.. وبقيَ ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كنّاسو المسرح بعد خروج آخر الممثلين!" (ماركيز)
تصديــر ثان: يحكى عن شخص مصاب بالاكتئاب قصد طبيبا نفسانيا للعلاج فنصحه بارتياد سرك يقدّم فيه مهرّج موهوب نمرة مسلّية جدّا قد تساعده على الشفاء، فأجاب المريض: "ذلك المهرّج الذي تتحدّث عنه هو أنا يا دكتور"

 
من طقوس الفرجة السينمائية عند الناس في هذا البلد أن يقزقزوا حبوب عبّاد الشمس، وينزعوا أحذيتهم لإراحة أقدامهم النتنة ويرشقوا ركبهم في ظهور الجالسين على المقاعد الأمامية، ويدخّنوا داخل القاعة، ويختلوا بحبيباتهم في زواياها المظلمة، وفيهم كثيرون يعلّقون على المشاهد والأحداث بأصوات عالية، بل ويصفّقون لبعض الأعمال الباهرة التي تؤتيها الشخصيات على الشاشة...

أمّا هو، فمن طقوسه ألاّ يدخل القاعة إلاّ وقد غرقت في الظلمة باستثناء ذلك الشعاع الذي ينطلق من بؤرة صغيرة في غرفة البث ليخترق الفضاء في اتّساع متواصل حتى ينهال على الشاشة الكبيرة ويتحوّل إلى عالم حيّ تؤثّثه الكائنات والمناظر. ما إن يطلّ برأسه متحسّسا طريقه في العتمة، حتّى تلوّح له المضيّفة اللّعوب بنقطة الضوء المتراقصة تدعوه كي يتبعها. تمسكه من يده كأعمى فيستسلم لها وهي تقوده منشغلا بشمّ رائحة عطرها دون أن يتبيّن لها وجها. كأنّما هي أحد شخصيات الفيلم تخرج من جوف الشاشة المسطّحة لاستقباله واقتياده نحو مقعده. يدسّ في راحتها قطعة نقدية فتضغط على يده شاكرة قبل أن توشوش في أذنه متمنّية له فرجة رائقة ثم تتبخّر في الظلام فيكاد يتبعها من فرط انجذابه إلى رائحة عطرها الشعبي الرّخيص...

عندما ينتهي الشريط وتضاء القاعة، يتلكّأ في المغادرة ويظلّ يبحث عنها بأرنبة أنفه عساه يتعرّف عليها من رائحة عطرها حتّى تظهر تلك المنظّفة الشمطاء من بعيد تستعجله في مغادرة القاعة.

كان ليلتها واقفا ينتظر الحافلة في المحطّة قبالة قاعة السينما لمّا رأى المنظّفة الشمطاء قادمة لتقف إلى جانبه منتظرة حافلتها... ودون تردّد سألها عن المضيّفة، فأجابته بجفاء واضطراب أنّ المضيّفة تغادر العمل حال إغلاق شباك التذاكر ودخول آخر متفرّج. وقبل أن يبادرها بسؤال آخر، ابتعدت عنه بسرعة. ولكنّ ذلك لم يثنه عن معاودة الاقتراب منها واستفسارها عمّا إذا كان للمضيّفة رجل في حياتها. ابتسمت بمكر ونصحته بألاّ يحاول الاقتراب من المضيّفة لأنّها متزوّجة من موظّف شباك التذاكر بالقاعة.

قي حصّة اليوم الموالي، بدت له المضيّفة أكثر اهتماما به وبادلته ضغطة اليد بضغطة أطول وأكثر حنانا... "ما هذا الذي تؤتيه هذه المضيّفة المتزوّجة؟ وهل تفعل هذا مع كلّ روّاد القاعة؟ هل يعلم زوجها بما تفعله؟ ربّما كان هو الذي يشجّعها على ذلك... هل تكون تلك هي قواعد هذه المهنة؟ كم يشبه الأمــر فكرة الحفل التنكّري. في الظلام، عندما يكون وجهك غير مكشوف، افعـــل ما تشاء. ولكن احرص على ألاّ يكتشف أحد هويّتك. ولكن إذا كان بإمكانك أن تتخفّى عن الآخرين، فهل تستطيع أن تخفي هويّتك عن نفسك؟ فأنت تعرف جيّدا من أنت..."

شغلته هذه الأفكار عن متابعة الفيلم. لمّا وقف مستعدّا لمغادرة القاعة قبل نهاية العرض، شاهد طيفه على الشاشة الكبيرة. ها هو الآخر، خيال ظلّ بدون ملامح تكشف من يكون... راقته فكرة أن يكون أحد شخصيات الفيلم. لم يدر كيف أتى تلك الحركة التي شاهدها الجميع على الشاشة...

وكالعادة كانت بؤرة الضوء تتراقص عند آخر صف المقاعد بانتظار وصوله كي تقوده خارج القاعة... حدّث نفسه: "هذه فرصتي كي أكشف وجهها. سأستدرجها حتى باب القاعة حيث الضوء كاف لأتبيّن ملامحها". عند آخر كرسي في الصف، كانت بانتظاره قبضة رجل شديد لوت معصمه ودفعته بفضاضة خارج القاعة... وجد نفسه في بهو الاستقبال المضاء. كان موظّف شبّاك التذاكر يستعدّ للمغادرة. وكانت المنظّفة الشمطاء منهمكة في تنظيف مقصورة شبّاك التذاكر... يا الله، ذات العطر الشعبي الرّخيص الذي تضعه المضيّفة...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى