كرسي التدليك

لست أعرف إن كانت إدارة الكلّية قد أحسنت صنعا بتوفير ذلك الكرسي في استراحة الأساتذة أم العكس. فقد سرى خبره منذ اليوم الأوّل لاقتناءه، وصار حديث الجميع في الكلية. كلّ من يجرّبه يصير يلهج بذكره أينما حلّ، وهو ما جعل الأساتذة والموظّفين يتقاطرون على فضاء الاستراحة لتجربته.
عرفتُ أنواعا كثيرة من الكراسي مثل كرسي طبيب الأسنان وكرسي الحلاّق وكرسي الاعتراف وكرسي الاسترخاء الشاطئي، الخ. وأدرك أنّه لا جدوى من محاولة تعداد جميع أنواع الكراسي ووظائفها لأنّها عديدة ولا حصر لها. ولكنّني أعترف أنّ كرسي التدليك الكهربائي مثّل اكتشافا بالنّسبة لي. وهو للحقيقة أعجوبة تكنولوجية.
يجلس الواحد على هذا الكرسي/الأريكة ويشدّ معصميه بحزام ويدسّ ساقيه في تجويف رخْوٍ سرعان ما يمتلأ بالهواء فينغلق على الساقين حدّ الركبتين. ومن خلال لوحة إلكترونية مثبتة بجانب اليد اليمنى، يستطيع المستخدم تعديل الجلسة وبرمجة مدّة التدليك وتضبيط نسقه وقوّته ونوع الموسيقى المرافقة. وبمجرّد الضغط على الزر الأخضر تنطلق كريات عديدة مثبتة تحت الغلاف الجلدي للكرسي الأريكة في الدوران والحركة في اتجاهات مدروسة تحاكي تضاريس الجسد وخارطة عضلاته فتداعبه في تناوب بين الحُنُوِّ والشدّة ومراوحة بين السرعة والبطء. تتوزّع حركة الكريات على كامل الجسد لا تخطئ فيه موضعا حتى تكاد تلامس المواطن الحسّاسة منه، فلا يلبث الجالس أن يأخذه الاسترخاء ويلفّه خدر لذيذ.

طالبت المدرّسات والموظّفات الإدارة بتخصيص حصّة للنّساء تجنّبا لحرج التدليك في حضرة الرجال، خصوصا وأنّ حركة الكريّات ودغدغاتها قد تجبر أحيانا مستخدم الكرسي على إتيان حركات بخصره وصدره تشبه الرّقص الماجن أو إطلاق ضحكات وإصدار زفرات وأنّات تذكّر بما يؤتيه الشخص عند ممارسته الجنس. وعلى دربهنّ سار الطّلبة الذين هدّدوا بالإضراب عن الدّروس إن لم توفّر لهم إدارة الكلية كراسي تدليك، ناهيك أنّهم أحوج من في الكلية إليها بحكم ضغط الدروس والامتحانات. ممّا دفع مجلس إدارة الكلية إلى عقد اجتماع طارئ لدراسة الأزمة.
يوم الاجتماع، قال وكيل الكلية لشؤون الموظّفين أنّ اقتناء كرسي التدليك لا يزال في طور التجربة. وبيّن أنّه يتنزّل في إطار سياسة الكلية الجديدة لإدارة الموارد البشرية بعد ثورة الحرية والكرامة. فبدل السياسة العقابية واقتطاع المبالغ من رواتب الموظفين بسبب التأخير والغياب، ارتأت الكلية أن تجرّب سياسة تعتمد على تحسين بيئة العمل  بما يشدّ الموظّف إلى مؤسّسته ويشجعه على قضاء أطول وقت في فضاءها بدل السعي إلى مغادرتها في أسرع وقت. وبعد ذلك قدّم وكيل شؤون الموظفين تقريرا تقييميا للتجربة أفاد من خلاله أنّ إدارة الكلية لم تكن تتوقّع ذلك النجاح للكرسي إلى الحد الذي انقلب فيه أحيانا إلى مصدر انزعاج لديها بعدما صار الأساتذة يمطّطون فترات الرّاحة ما بين المحاضرات ويتأخّرون في استئناف محاضراتهم.
وممّا جاء في تقرير وكيل شؤون الموظّفين أنّ التأخيرات في الالتحاق بالكلّية عند انطلاق الدوام الصباحي سجّلت تراجعا ملموسا، حيث صار الأساتذة يصلون إلى الكلية ساعة إلى نصف ساعة قبل انطلاق المحاضرات الصباحية ليصطفّوا في طابور الانتظار ويأخذوا حصّة التدليك اليومي التي صار بعضهم لا يستطيع الاستغناء عنها. ورغم أنّ تعليمات واضحة صدرت لإعطاء الأولوية للأساتذة على سائر الموظّفين، إلاّ أنّ كرسيا واحدا لا يكفي لتدليك جميع الأساتذة قبل انطلاق المحاضرات، خصوصا وأنّ من بينهم من لا يلتزم بالعشر دقائق المتّفق عليها فيبرمج حصصا تصل أحيانا إلى نصف ساعة. وختم وكيل شؤون الموظّفين تقريره بطمأنة ممثلي الأساتذة والموظّفين والطلبة أنّ الكلية لا تعتزم التراجع عن هذه التجربة وسحب الكرسي كما روّجته مؤخّرا عديد الألسنة الخبيثة على حد تعبيره، والتمس من المجلس المصادقة على برنامج لاقتناء كراسى أخرى وفق نسق يسمح بتركيز قاعة رجالية وأخرى نسائية في غضون سنتين. لكنّ ممثّل الطلبة اعترض على هذه الخطّة التي اعتبرها تهمل الطالب الذي يجب أن يكون محور العملية التربوية وغايتها الأولى والأخيرة، وطالب في المقابل بتعميم هذه الكراسي في جميع القاعات الدراسية حتّى يأخذ أبناء الشعب نصيبهم من التدليك الذي حرمتهم منه سياسة النظام البائد. كما شدّد ممثّل الطلبة على أنّ تحويل مقاعد الدراسة إلى كراسي تدليك لا يعطّل في شيء التحصيل المعرفي والتركيز الذهني للطلاّب، إذا ما تمّ تعطيل سمّاعات الإنصات إلى الموسيقى. وبعد ذلك أحيلت الكلمة إلى المشرف على الأمن والسلامة وصيانة المعدّات، فبيّن أنّ نسبة الأعطاب ضعيفة رغم ارتفاع الإقبال، باستثناء حالة عطب واحدة عزاها إلى كثرة حركة مستخدم بدين أثناء تشغيل الكرسي ممّا تسبّب في فصله عن الكهرباء وبقاء رقبة المستخدم مشدودة بين الكرات لفترة وجيزة أصيب أثناءها المستخدم بحالة هلع نفسي. ونصح مشرف الأمن والسلامة بتركيز لوحة تتضمّن تعليمات لسلامة وطريقة الاستخدام أمام الكرسي، كما نبّه إلى ضرورة تمتيع الكرسي بيوم راحة في الأسبوع يستغلّ للصيانة، وهو ما لا يتوفّر في الوقت الحاضر باعتبار كاميراهات المراقبة سجّلت استخداما مكثّفا للكرسي أثناء عطلة نهاية الأسبوع من طرف العمّال الذين لم يتورّع بعضهم عن استقدام أبناءهم وزوجاتهم للتمتّع بحصص تدليك. وهنا احتجّت ممثّلة الموظّفين على تصوير المستخدمين في مثل هذه الأوضاع الحميمية وطالبت بمنع التصوير. واختتم الاجتماع بتدخّل رشيق من عميد الكلية المنتخب الذي بيّن أنّه أكبر متضرّر في هذه المسألة باعتباره لم يجرّب إلى الآن هذا الجهاز، رغم أنّ طبيبه نصحه به لكثرة جلوسه إلى المكتب الإداري. وختم الاجتماع بإعلام الحاضرين أنّ الوزير أكّد له يوم تدشين الكرسي اعتزام الوزارة ترشيح الكلّية للفوز بجائزة نظام الجودة التي تسندها وزارة الشغل سنويا لأفضل المؤسّسات الوطنية في مجال إدارة الموارد البشرية.

تنويه: كل تشابه مع الواقع هو محض صدفة 

Commentaires

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى