اليوم الأوّل في بانكوك

تطلّ برأسك من باب الطائرة مستعدّا للنزول نحو الحافلة الرابضة أسفل المدرج بانتظار القادمين. تلفعك حرارة غير عادية في وجهك لتوقظك من خدر الهواء المكيّف داخل الطائرة. رطوبة مرتفعة حتى تكاد لا تظفر بشيء وأنت تستنشق الهواء بمنخريك المفتوحين على أقصاهما كمنخري بغل. لا يسعفك فمك الذي تفتحه متلقّفا الهواء، وقد أطبق عليك الاختناق، إلاّ ببخار مثقّل بالماء كبخار الحمّام. بعض ثوان كافية كي تحسّ جلدك دبقا وملابسك ملتصقة بجسدك. لقد تحوّلت رئتاك من اسفنجتين رخوتين إلى بالونَيْ كاوتشو سميك ومتيبّس. "ما الذي دعاني إلى القدوم إلى هذا البرّ البعيد؟؟". وفي الخطوات الفاصلة بين مدرج الطائرة وباب الحافلة، تدرك معنى كلام الرياضيين عن استحالة لعب الكرة في مثل هذا المناخ المداري الرّطب والحارّ. تسترجع شيئا من حيويتك لمّا تصعد الحافلة، ويسعدك أن تتواصل الانتعاشة في فضاء المطار المكيّف. ولكنّ مغادرتك للمطار ترجعك إلى معاناة تلقّف الأنفاس.
تستقلّ سيّارة تاكسي وتناول السائق ورقة عليها اسم النزل وعنوانه، فيدوس على زرّ ليشغّل مروحة بلاستيكية صغيرة، تشبه لعب الأطفال يوم العيد عندنا، ثمّ ينطلق. يقود التاكسيست سيارته بسرعة جنونية رغم حالة الازدحام في الطريق. يسيطر عليك الإحساس بعدم التوازن وبالعالم معكوسا من حواليك، فتشغل نفسك بالتطلّع من خلال النافذة. لكنّ إحساسك بعدم التوازن يتضاعف ويحاصرك حتّى تنتبه إلى أنّ كرسي السائق على يمين السيارة وأنّ هذا الأخير يستخدم يده اليسرى لتحريك مقبض السرعة. ثمّ تلاحظ أنّ السيارات تلزم اليسار عكس ما تعودته في بلدك. في بانكوك، تقدّم الدراجات النارية كذلك خدمة التاكسي. يلبس صاحب الدراجة التي تحمل لوحة مميّزة، خوذة خاصّة ويضع قناعا قماشيا يقيه من دخان السيارات، ويقف في انتظار الحريف محترما دوره في الطّابور. تمرق هذه الدراجات بجانب سيارة التاكسي بسرعة جنونية والحريف رجلا كان أو امرأة جالس وراء السائق يطوّق حزامه بذراعيه مستبيحا جسد السائق.
الطرق السيّارة في هذه البلاد العجيبة تخترق قلب المدينة التي تعجّ بناطحات السحاب العصرية والمجاورة للأحياء الشعبية. تمرّ سيارة التاكسي على جسور معلّقة بين العمارات القريبة من بعضها فيمكنك أن ترى تفاصيل البيوت من الداخل. تتحوّل شرفات شقق الطابق الرابع إلى ما يشبه الرصيف على جنبات الطريق ويبدو أصحاب البيوت وهم يتّكؤون على الشرفات كمارّة واقفين على جانبي الرّصيف.
نساء مقرفصات أمام قصاع كبيرة لا تتبيّن محتوياتها يلحن من وراء مستنقعات تكسوها الطّحالب الخضراء وينمو على جنباتها نبات القصب السكّري. اللافتات الإشهارية لماك دونالدز وكوكاكولا وكنتاكي منثورة على طول الطريق. يخاطبك التاكسيست بلغة إنجليزية غير مفهومة ويبتسم في وجهك بحماقة. تردّ له الابتسامة بجرعة أكبر من الحماقة. لكنّه يصرّ على الاستمرار في التحدّث إليك. يسحب من درج الباب ألبوما ضخما يناولك إياه منتظرا منك أن تتصفّحه. "تاي ماساج، تاي ماساج" يردّد السائق لمّا يلاحظ تفاجئك بصور الفتيات في ذلك الألبوم الضخم...
تقف التاكسي أمام الشيراتون بالاص فتسرع إلى الدّاخل بأقصى سرعة طلبا للتكييف. تتمّ إجراءات القبول وتتسلمّ مفتاح غرفتك بالطابق الخامس. وأنت تتعجّل الوصول إلى الغرفة كي تأخذ دشا باردا، ترافقك في المصعد فتيات آسياويات من ذوات العيون المسحوبة إلى الناظرين، حتّى يبدون أقرب إلى العصافير منهنّ إلى الكائنات البشرية.
من وراء النافذة حيث تقف لتجفيف شعرك، تلقي نظرة على حديقة النزل فتلمح رجلا وامرأة يتعبدّان أمام مصلّى بوذي صغير تحت رذاذ المطر. يغريك المنظر بنزهة خاطفة في محيط النزل، فتصرف النظر عن مشروع الإغفاءة وتترك محتويات الحقيبة منثورة على الفراش وتغادر الغرفة.
أمام المصعد تلتقيك نفس الفتيات الساحرات بابتساماتهنّ المغرية وتنوراتهن الأسكتلندية القصيرة. دمى بشرية من فرط الظرف واللطافة تزقزق إذ تتكلّم أو تضحك. وحالما ينغلق عليكم باب المصعد، تبادرك إحداهنّ هذه المرّة "تاي ماساج، تراي إيت، إيتس فيري غوود فور يو" ويزقزقن مع بعض كعشّ من الفراخ الضاجّة.
تتّجه إلى البار لتطلب بيرة تبلّ بها حلقك الذي جفّفته العصافير. تجثم النادلة على ركبتيها لتقدّم لك كأس المشروب الأصفر تتصاعد من أسفله كريّات غاز بيضاء... يزداد جفاف حلقك، وأنت تلاحظ هذه الطقوس على خلفية موسيقى خافتة. كأس أولى ثم ثانية ثم ثالثة فرابعة، والنادلة تكرّر نفس الحركات كراهبة. وزقزقات عصافير الماساج التايلاندي القابعات هناك في صالون الزاوية المقابلة تحتدّ أكثر فأكثر، وملامحهنّ تغيم حتّى يتحوّلن إلى أطياف....
بخار يعتّم قاعة الصونا وموسيقى صينية تسيطر عليها أصوات المزامير والنواقيس. روائح أشجار غابية وأعشاب حارّة تخترق أنفك تتبيّن منها روائح الصنوبر والكالاتوس والإكليل والزعتر ولا تتعرّف على البقيّة. يد ناعمة تمسكك من كتفك برفق وتمدّدك على مصطبة خزفية لتهرق على جسدك خليطا من زيوت الريحان والمنتهى والسمسم والينسون والقرنفل وتوزّعها على كامل جسدك بحركات سريعة وناعمة براحتي يديها، فتشعر بمسامّ جلدك تنفتح والهواء يخترقها. بعد ذلك، تطليك بطبقة سميكة من الطّحالب والأوحال قبل أن تبخّ عليك هواء ساخنا، يجعل جلدتك تنشدّ وعضلاتك تتحفّز. ربع ساعة تدعوك بعدها المدلّكة بحركة دونما كلام إلى الغطس في حوض ماء بعمق متر. تستجيب بهدوء راهب في معبده وتتحرّك بانسجام مع إيقاع الموسيقى وبعينين نصف مغمضتين. تجلس على حافة الحوض وتبدّل الخطو نازلا درجاته والمدلّكة تمسك بيدك لمساعدتك.
- "كم ستكلّفني هذه الحماقة من دولار يا ترى؟؟ لا وقت لهذه الحسابات الخسيسة أيها الأحمق، لا تفسد متعتك. استمرّ في ما أنت فيه... العزى فيك وفي والدين أمّ الدولارات، شعرة لا زلقت وساقي مشات... سورّي سورّي، أي نيد تو غاو تو ذي تُويْلِت... ينعل دين أم البيرة، آش تبوّل"...
ومن زاوية معتّمة يأتيك صوت:
- "آ زرّي !!؟؟ يقوى عليكم ربّي يا توانسة... حتى في قلب حمّام مظلّم في طرف الدنيا تلقى تونسي يا بوقلب، برجولية مخّي وقف... يا ولد بلادي آش جاب غربتك لها البرّ؟ برّة برّة بول، وارجع كمّل مسّاجك، راك مازلت ما ريت شيء... أمّا ما نوصّيكش، ردّ بالك من السيدا"

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى