المعشعش

أمام استحالة إقناع والده بفرز الورق قبل الإلقاء به في فوهة تلك الطاحونة العملاقة التي تعجنه لتعيد إخراجه ورقا صالحا للف البضائع، طلب كمال الإشراف على وردية اللّيل حتى يمكنه انتقاء بعض الحزم وفرزها حسب تقديره لأهميّة مصدر الورق. كانت فكرة تأسيس المصنع قد نبتت في ذهن والده صاحب الحس الاستثماري المتطوّر منذ بدأت شركة استغلال المنجم في تصفية نشاطها بقرى الجهة. حدس والده أنّ إدارات عديدة بقاؤها مرتبط بوجود الشركة المنجمية ستتوقّف عن النشاط وتتخلّص بدورها من أوراقها. فإذا أضفنا إلى ذلك الفواضل الورقية للمدارس والمعاهد والمستشفى والصيدليات ومحطّة القطار ومكتب البريد وقصر البلدية وغيرها من المؤسّسات فإنّ المادّة الأوّلية لاشتغال المصنع وضمان ربحيّة النشاط مؤمّنة لفترة لا تقل عن خمس سنوات.
لا يعود الحس الوثائقي لدى الابن كمال إلى مجرّد كونه خرّيج معهد الأرشيف بجامعة منّوبة، وإنّما أيضا إلى اندهاشه الطفولي بتلك الحروف مختلفة الألوان والأحجام والأوضاع التي يشاهدها على ظهر ورق لفّ اللحم والسكّر.. كان كلّما أمسك بقطعة من ذلك الورق الأشخم السميك وتأمّل الحروف المتناثرة في فوضى على مساحته، يسرح به خياله إلى مصدر كل حرف، وكيف تمزّقت الكلمات الأصلية أشلاءا لتختلط بكلمات أخرى، بعضها قادم من الجرائد أفكارا صحفية تافهة أو مهمّة وبعضها تقارير إدارية أو فواتير وبعضها الآخر صفحات من كراريس مدرسية أو كتب أدبية. فيبدو له خليط تلك الحروف أشبه ما يكون بتلك المرطّبات المصنوعة من فواضل المرطبات والتي يسمّونها "معشعش". هكذا اقترح على والده وأقنعه بأن يسمّي منتوج المصنع بورق المعشعش بدل تسمية "كاغط البوراج" التي كانت تطلق على تلك النوعية من الورق.
وفيما عدا الدفتر المدرسي للسيّد ع. ز. ابن القرية الذي صار وزيرا متنفّذا، فإنّه لم يعثر على وثائق ذات بال. لكنّ خيباته لم تفتّ من عزمه. فقد كان كالباحث عن الذهب في مجرى النهر، يلقي بغرباله ويرفعه متفحّصا ما يعلق به حصاة حصاة، ويكرّر العملية دون كلل أو ملل.
ليلتها، أعلمه والده بوجود أكياس جاءت بها شاحنة النظافة البلدية من محطّة القطارات التي تقرّر هدمها بعد توقّف الخط الحديدي نهائيا منذ سنوات.
وككلّ مرّة يتلقّى فيها المصنع تحويلا من هذا الحجم، دقّ قلبه للخبر وحدّثه بأنّ كنزا قد يكون مخبّأ في تلك الأكياس. ودون أن يحمله الحماس بعيدا نظرا لتعوّده بالخيبات، قرّر القيام بفرز سريع عسى أن...
فتح الصندوق الأوّل فوقع منذ الوهلة الأولى على:
  1. وصولات لشحن الخضر والغلال من القرية إلى مدن الوسط الغربي وبيان بكمياتها وأنواعها. وصولات تعود إلى خمسينات القرن الماضي عرف من خلالها أنّ قريته الجدباء كانت في السابق "مصدّرا" للخضر والغلال
  2. وصولات استلام شحنات من الإسمنت والآجر
  3. أوقات السفرات ووجهاتها
  4. إحصاءات بالتذاكر المباعة وبالمداخيل اليومية للمحطّة عن نقل المسافرين ونقل البضائع
  5. تقارير أسبوعية عن تأخيرات القطارات ومددها وأسبابها
  6. تقرير عن أشغال صيانة الخط الغربي الرابط بين الجنوب الغربي وجبال صراورتان مرورا بالقصرين
  7. تقرير عن حادثة قطع للطريق وسلب للبضائع قام بها الثوّار الجزائريون
  8. صور للقطار ولفرق العمل مع تحديد لتاريخ التقاطها وذكر لأسماء الأشخاص على ظهر الصور
  9. صور للمحطّة وللمسافرين مع تعليقات عنصرية حرّرها رئيس المحطّة الفرنسي
  10. مراسلة تطلب رفع عربة معطّبة "تحوّلت إلى وكر للسكّيرين والشواذ" حسب عبارة محرّر الرّسالة
  11. تقارير عن مخالفات متنوعة مرتكبة على خط توزر صفاقس (عدم خلاص تذاكر، عنف، سفر في حالة سكر، نقل بضائع غير مرخّص فيها، حالات ضياع أمتعة وأطفال)
  12. تقرير عن حادث دهس القطار لقطيع إبل نتج عنه وفاة راكب، مع تحديد لاسم مالك القطيع وقبيلته


كان كمال كلّما فتح ملفا إلاّ وغرق فيه ساعة أو أكثر متخيّلا الحياة في تلك المحطّة التي ستمحوها الجرّافات غدا وتسوّيها بالأرض، فيكاد قلبه ينفطر لوعة وجزعا. وكان يتألّم كلّما عثر على وثيقة محتها الرّطوبة وأتلفتها، حتّى أدركه الصباح. كانت المحطّة قد استيقظت في ذهنه من رماد تلك الأوراق واستوت نابضة بالحياة في جلبتها ونشاطها وعرباتها وقاطراتها المصفّرة ووجوه موظّفيها بأزيائهم المهنية ومسافريها الذين كان يراهم في جلابيبهم وبرانيسهم الصوفية... قرّر أن يتوجّه رأسا إلى مكتب رئيس البلدية ويحدّثه في الأمر عساه يقنعه بالتراجع عن عملية الهدم وتحويل المحطّة إلى متحف. ركن الأكياس في زاوية بالمكتب وغادره قاصدا قصر البلدية دون أن ينتظر وصول والده .
عند الضحى، عاد إلى المصنع مستبشرا تعلو محيّاه ابتسامة المنتصر وهو يتخيّل كيف سيأتي باحثون في التاريخ المحلّي ليستنطقوا تلك الوثائق ويؤلّفوا منها كتبا ثمينة. لمّا دخل المكتب، كان الزّاوية خاوية وكانت طاحونة الورق قد عجنت أوراق المحطة لتخرج لفائف من المعشعش المزركش بالحروف

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى