مناورة


فشلت كل مساعي الوساطة في إقناع أحد الطرفين بتغيير رأيه. وأمام رجال الحومة، ضرب سلومة كفّا بكف في ما فهم منه الحاضرون تسليما بفشله وقال" "يا عباد اللّه، ليست الحلول والمقترحات المعقولة هي التي تنقصنا، ولكنّه العناد والمكابرة لمّا يتمكنّان بالبشر. وإلاّ، كيف يصرّ كلاهما على نفس التاريخ والمكان مع أنّ في ذلك مضرّة للجميع؟!"
استرسل سلومة شارحا الوضع: "يقول الحاج عبد العزيز أنّه لا يستطيع تغيير مكان العرس ولا تاريخ السهرة، لأنّه وزّع الدعوات بتاريخ ليلة الأحد وفي بطحاء الحومة. بينما يصرّ مختار الوريمي أنّه لا يقبل بإقامة السهرة في مكان بعيد عن بيته وذويه. وأنتم تعلمون يا عباد اللّه أنّ القلوب لو صفيت لتوصّلنا إلى حل يرضي الجميع."
كان سلومة، بكلامه عن عدم صفاء القلوب، يلمّح إلى ما يعرفه الكلّ عن العداوة بين عزّوز والمخ. عداوة نشأت بعد الثورة وأنهت عشرة سنوات طويلة جمعتهما في اليابسة والبحر... كان السمك قد شحّ منذ ما قبل الثورة في خليج حلق الوادي-المرسى بفعل أحواض تربية الأسماك البحرية التي أقامها أصهار الرئيس، ولم يكن لهما مراكب تقوى على الصيد في المياه العالية. وما إن انفجرت الثورة حتّى قرّر الصديقان العمل في مجال "الحرقة إلى برّ الطليان". أغراهما المكسب الوفير على الاستمرار في المخاطرة إلى أن حصل ما كانا يخشيانه. حادثة غرق وموتى وبعض ناجين وأحكام بالسجن.
سنتان من السجن كانتا كافيتين ليغادره عزّوز والمخ كما لو أنّهما لم يعرفا بعضا أبدا. ففيما انقلب عزّوز إلى سلفي جهادي، ظلّ المخ على حاله. هكذا انتهت عشرة العمر الطويلة... أطلق عزّوز لحية دون شاربين وصار يرتدي القميص الطويل والسروال القصير وقبّعة سوداء تتخلّلها ثقوب، وفتح دكّانا في نهج بومنديل بمساعدة الإخوة وحجّ إلى بيت الله الحرام وغيّر اسمه إلى الحاج عبد العزيز. أمّا المخ فظلّ وفيّا لعادته في السّهر على صخور الشاطئ رفقة أولاد الحومة، يشرب الخمر ويدخّن الزّطلة ويبيعهما لمرتادي الشاطئ. وكان يؤكّد لجلاّسه أنّ ما يفعله عبد العزيز ليس سوى سينما خادعة للحصول على المال، وأنّه أدرى النّاس به ...
كان سلومة يشرح الموقف للجماعة في رأس النهج، لمّا وصلت شاحنة على متنها قماشة الخيمة العملاقة وأعمدتها الحديدية والكراسي ومستلزمات الإضاءة. اعترض سبيلها المخ مانعا السائق ومرافقه من إفراغ حمولتها. وكادت تشتعل بين الرّجلين لمّأ وصل الحاج عبد العزيز مهرولا ملوّحا بسيف. احتلّ أنصار المخ جانبا من البطحاء ووضعوا فيه أخشابا وكراسي وطاولات أخرجوها على عجل من المنزل. تأخّر المخ إلى الوراء قليلا وهو يشمّر على أكمام قميصه متعمّدا إظهار أوشام ذراعيه التي تشي بفتوّة وجبروت آفلين، وخاطب الجميع: "بإمكان الحاج عبد العزيز أن ينصب خيمته في الفضاء المتبفّي شرط أن لا يغلق الطريق على المدعوّين إلى فرحي".
واصل سلومة شرح الموقف للحاضرين على مسمع من الخصمين كأنّما ليخلي نفسه من أيّة مسؤولية: "وصلنا إلى حدّ اقتراح سهرة مشتركة تحت خيمة واحدة وبفرقة واحدة ومنصّتين منفصلتين. قلنا، هي فرصة لتنقية القلوب وصفاء السرائر. لكن لا فائدة..." والحقيقة أنّ سلومة امتنع عن إعلام الحاضرين بقبول الطرفين للحل في البداية غير أنّهما تراجعا فيما بعد لأنّ والدتي العروسين تخشيان المقارنة بين العروستين وجمالهما وفستانيهما ومكياجيهما. فعل سلومة ذلك تجنّبا لإحراج الرّجلين. وظلّ يرمقهما صامتا قبل أن يستأنف الكلام: "شوفوا يا رجال، وليكن الجميع شاهدا على ما أقول. لم يبق لي من حلّ إلاّ تقسيم السهرة إلى جزئين، تجنّبا لتداخل مضخّمات الصوت وتمكينا للمدعوّين من حضور الحفلين. تكون السهرة الأولى ما بين الثامنة والعاشرة ليلا، وتعقبها سهرة ثانية إلى حدود منتصف الليل".
صاح المخ "طيّب شرط أن تكون سهرتي أنا في الجزء الأوّل" ابتسم الحاج عبد العزيز ساخرا في سرّه من تهافت خصمه، وردّ "طيّب، رضيت بذلك"
استغرب الجميع موقف المخ الذي بدا لهم غير وجيه، حتّى أنّ ابنه العريس قد احتجّ على ذلك. ولكنّه نهره وأقفل باب النقاش.
انتصبت خيمة الحاج عبد العزيز في مدخل البطحاء سادّة الطريق على الفضاء الذي احتلّه أنصار المخ، ولم تترك لمدعوّيه غير ممشى لا يتجاوز عرضه المتر، سرعان ما علّق عليه المخ ساخرا في حنق "مرحبا بيكم في نهج عنّقني". كان واضحا أنّ الحاج عبد العزيز قد فرض كلمته وفعل ما يريد. أمّا مختار الوريمي فقد زمّ شفتيه واكتفى بالقول "طيّب، سنرى..." متظاهرا بقبول التقسيم مكانا وزمانا.
لمّا فرغ فتوّات المخّ من نصب المنصّة وإعداد الفضاء، اجتمع بهم ليشرح لهم الخطّة مؤكّدا على عدم المبادرة بالعدوان وعلى ضرورة الرّد الحازم في حالة مخالفة الحاج عبد العزيز للاتفاق، واعدا الجميع بأنهار من الجعة الممتازة. وأكّد على مسامع الجميع وهو يعلم أنّ من بينهم مندسّين زرعهم الحاج عبد العزيز: "لن نقبل أي اعتداء على حقّنا. وليكن في العلم أنّ منع المدعوّين من الوصول إلينا أو تحويل وجهتهم إلى الخيمة الأخرى يعدّ في نظرنا عدوانا يستوجب الرّدّ الحازم. ولن نتردّد في ذلك."
قهقه الحاج عبد العزيز لمّا أخبره أعوانه بكلام مختار الوريمي واكتفى بالقول "إذا كان يعتقد أنّه سيرهبني بفتوّاته، فإنّ معي كتيبة من الإخوة شباب حماية الثورة. وسنرى"
لمّا بلغت الساعة العاشرة ليلا أشار المخ إلى الفرقة بالاستمرار وإلى فتيانه باليقظة، وخرج يفاوض الحاج عبد العزيز للحصول على تمديد بساعة. قال له باختصار وصرامة: "يا حاج، فرحنا هو فرحكم، وفرحكم هو فرحنا. ليل الصيف معاش كلّه، ولا فرق بين أن تبدؤوا سهرتكم في العاشرة أو الحادية عشرة". قبل الحاج عبد العزيز بالأمر الواقع صاغرا، وقد صدمته رائحة الخمرة المنبعثة من خصمه. ولكن، ما لم يحسب له الحاج عبد العزيز حسابا هو أنّ مصدر الكهرباء يقع في آخر البطحاء ناحية بيت مختار الوريمي...
في الحادية عشر ليلا، انطفأت الأضواء جميعها دفعة واحدة، فغرقت خيمة الحاج عبد العزيز في الظلام، وغرق المخ وفتيته في الضحك.
سحب المخ نفسا طويلا من الجونتة التي مرّرها له أحد الفتية وقال وهو ينفث دخانها بتؤدة ومتعة: "لا تنفع مع هذه الرهوط التي لا عهد لها ولا ميثاق إلاّ المناورة. ياخي صدّقتوا اللي هذاكا سلفي بالرّسمي، لو كان بالحق راهو لا عمل لا سهرة لا تصديرة في منصّة. ها الراطسة هاذي ما يحبّوا كان الظلام، يعرّسوا فيه ويعيشوا فيه ويموتوا فيه..."

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى