جاكلين


في قريتنا جاكلينتان: الأتان جاكلين وزوجة ثامر ولد بن بشير الشقراء الهولندية جاكلين...
 تلك الظهيرة، كنّا كعادتنا منذ عشرات السنين منصرفين إلى مراقبة انصرام الوقت في صمت نتصيّد خدشا يمزّق زرقة السماء ونتأمّل صلف الشمس ووقاحة الريح الرملية. كبارنا يتجمّعون في ظلّ زاوية سيدي مسكين الرّابضة فوق تلّة القرية المشرفة على الطريق الصحراوي... نفر قليل منهم نائم على الرّمل، وأكثرهم مقرفصون وهم متلفّعون بعمائمهم البيضاء التي لا تكشف إلاّ عن عيونهم، يلعبون الخربقة ويطردون بين الحين والآخر الماعز اللائذ بظل الجدار... نعش الأموات الخشبي المتآكل يترنّح في مكانه محدثا صريرا رتيبا ويكاد يسقط متفكّكا. أمّا الشباب، فمتحلّقون غرب الزّاوية في حانوت "بن بشير" حول سعد الذي جاءنا في إجازة من عمله كساعي بريد في المدينة. كان سعد يرينا بفخر صوره وهو يرتدي زي حكم رياضي في كرة القدم ماسكا صفّارته تارة، ورافعا ورقة حمراء في وجه لاعب يتوسّل إليه طورا. وكان بعضنا منشغلا عن بطولات سعد بالتهامس في شؤون الجسد. قال الدرّاجي متحدّيا سعد: "سأسلّمك رسالة كتبتها إلى اللّه، أريدك أن تضعها في صندوق البريد" ضحك الجميع وسرعان ما استغفروا ربّهم، فيما سأل سعد الدرّاجي هازئا: "وما هو العنوان الذي وضعته على الرسالة؟" أجاب الدرّاجي بكلّ ثقة: "عليك أن تكتفي بوضع الرسالة في صندوق البريد، وستعرف هي طريقها إلى اللّه". وسرت بين الحاضرين موجة استغفار ثانية.

كان عم الطّاهر أوّل من انتبه إلى قدومهم ، فلوّح بعكّازه باتّجاه نقطة الغبار التي ما انفكّت تكبر وهي تقترب من الرّبوة كدوّامة ريح تلولب الغبار وتزحف. لكن سرعان ما تحوّلت النقطة إلى نقاط متتابعة... خمّن بن بشير بصوت مرتفع "لاشكّ أنّها القافلة الصحية التي تحدّثت عنها الإذاعة أمس" فعلّق الدرّاجي "سبحانك يا ربّي، ها قد استجبت قبل أن تصلك الرسالة"... وعارض سعد "لعلّها كتيبة من حرس الحدود أو الجيش في دورية استطلاع ومراقبة" فعلّق الدرّاجي من جديد: "سيارات الحرس والجيش حمراء! ما هذا العلم يا سعد؟"...قطع الكلب الأجرب على الجميع تخميناتهم بالنباح والهرولة باتّجاه السيارات رباعية الدفع وقد صرنا نسمع هدير محرّكاتها ونتبيّن رؤوس ركّابها من وراء البلّور... كانوا سيّاحا أوروبيين شقر بشعور صفراء ناعمة وبشرة بيضاء يكاد الدم المحتقن تحتها بفعل أشعة الشمس يفور.

قفز سعد والدرّاجي وبن بشير لاستقبال القادمين... كان أوّل النازلين دليل سياحي بلباس صحراوي فضفاض ألقى علينا التحيّة بلسان عربي والتفت ناحيتهم يرطن بلغة أجنبية غير الفرنسية... قال لنا باختصار: "هولنديون أرهقتهم الحرارة، فجاؤوا لغسل أطرافهم والتبرّد، وجلبتهم قبّة الزاوية الخضراء فأرادوا زيارتها وأخذ بعض الصور"
رحّب بن بشير وراح يفتح زجاجات المشروبات الغازية وهو يعتذر على عدم توفّر المياه المعدنية عنده لكون الناس لا يستهلكونها هنا. فيما أشار عم الطّاهر إلى الدّليل بأن يدخل هو فقط إلى الزّاوية كي يملأ لهم ما يكفيهم من الماء البارد من الماجل.
انتشرت الحوريات الهولنديات ضاجّات مبتسمات في أرجاء المكان وهنّ مرتديات شورتات قصيرة جدّا تكشف عن أفخاذهن البضّة وأقمصة دون أكمام تكشف عن نهودهن المكتنزة. ولم يكن بيننا من يعير أدنى اهتمام لرجالهم سوى الدرّاجي الذي كان يجهد نفسه في التحاور معهم مقدّما لنا خدمة جليلة. جرى تيس وراء المعزات يريد ركوب إحداها وهو يرغي ويزبد قافزا إلى أعلى بساقيه الأماميتين، لاويا رأسه كأنّه يريد المبارزة. نادى عم إبراهيم وعم الناجي أولادهما وأمراهما بالأوبة إلى المنزل. وفيما انصاع التارزي ولد عم النّاجي، تجاهل عمّار أمر أبيه، وعلّق: "الأولى أن يعود هو إلى البيت. ألا يستحي من شيخوخته؟ أمّا أنا فشباب ومن حقي أن أعيش حياتي المغلقة... وها هي قد فتحت لي بابها".
لم نصح من تخميرتنا إلاّ بعد انصراف القافلة وعودة الهدوء إلى المكان. كان هناك نوع من الحزن يخيّم على المكان. كأنّما كانت تحلّق فيه فراشات وتزقزق فيه عصافير وغادرته... انطفأ ذلك البريق الذي دبّ فجأة في العيون وانكمشت الشفاه بعدما انفرجت راسمة ابتسامات... وعادت إلى الوجوه كآبتها المعهودة. كان بن بشير يجمع الزجاجات الفارغة من تحت الجدران. وكان سعد يتهجّى عنوان مجلّة إنجليزية أهداها إيّاه أحد الرجال. شاكس عمّ الطاهر بن بشير: "ها قد كسبت من هذه الزيارة ما لن تكسبه طوال حياتك " فأقسم بن بشير أنّه عاملهم كضيوف ولم يقبض منهم ملّيما واحدا. ردّ عمّ الطاهر "هذا بالضبط ما سيجعلك تربح. ابنك هو الذي سيقبض يا بن بشير" فقهقه الحاضرون وقد فهموا ما يلمّح إليه عمّ الطّاهر من فوز ثامر ولد بن بشير بصورة العجوز الشقراء جاكلين بعدما دوّنت على ظهرها اسمها وعنوانها. كان قد تنافس عليها ثلاثة شبّان انتحوا بها جانبا وظلّوا يخاطبونها بالإشارات إلى أن تكرّمت بصورتها وعنوانها على ثامر من دون عمّار ولد الناجي والضاوي البنّاي. فجأة، علا صوت عمّ الناجي وخرج على الحاضرين يجري رافعا سرواله العربي إلى أعلى وهو يلوّح بعكّازه مهدّدا بعد أن ضبط ابنه عمّار يواقع أتانتهم مغمض العينين وهو يردّد: "آه، حبيبتي جاكلين، آه حبيبتي جاكلين"...
أي لعنة حلّت بقريتنا الوديعة حتى تطأ أقدامهم النجسة ترابها الطّاهر!؟

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى