الشاهق



  • فرحان بروحك وتحكيلنا على بطولاتك؟ شفتك وأنت تجبد في الفوسكة ويدك ترعش، قريب تبول على روحك. وتسخايل البروف ما شافكش؟ أما تعرفش لواش طفّى الضو عليك وخلاّك تصنع جوّك؟.. على خاطر السؤال ما يطلّبش حفيظة... وأنت نازل كيف المدك تكتب وتميّل في راسك.
  • شبيك يا صاحبي داخل فيّ فركة وعود حطب؟ لاباس في مخك؟
  • ندخل فيك ونص... أنا كنت انّجم نفرشك في القسم. أمّا قلت لا.. ما هياش رجولية... وما كنتش باش نجبدلك الهدرة. أمّا كيف تجي تبهبر علينا ولاعب فيها بطل. يولّي ياسر...
  • شنوّة اللي ياسر وموش ياسر؟؟ يا أولادي شبيه هذا؟ نورمال ياخي؟ قولولو يفوتني خلّيني رايض ها الصباح... ترا هات سيقارو يا زياد... يعجبكشي زادة. الله يلهّينا بحوايجنا.
  • نفوتك؟... شبيني في دارك وما في باليش؟ إنت اللي قوم خبّي وجهك... ماعادش لاموضة جوّك راهو.
باف، باف، شطاف أعطيه، سيّب، تي سيّب من غادي، نيــ... أمّك... لا عاد يا الأولاد... تي حزّوهم يعيّشكم... ووووووه... شفّــــرو... ملاّ مشطة...

تابعت هذا الذي حصل وراء مكتبي بالطابق الأوّل حيث كانت أصواتهم تتناهى إلى سمعي عبر النافذة التي تفتح على الساحة الخلفية للمعهد حيث تعوّد الطلبة أن يستظلّوا تحت الأشجار ومرابض السيارات، يترشّفون القهوة ويأكلون سندويتشاتهم ويدخّنون ويتعاشقون ويلعبون الورق. لم يكن يهمّني أن أعرف هوية الطالبين ولم تشدّني الخصومة في ذاتها ولا الكلام النابي. فقد تعوّدت سماع ذلك من الطلبة. ولكن أن يساند أغلب الحاضرين زميلهم المعترض على الغش، ويثنون على حسن اختياره لمكان وتوقيت الإدانة، فهذا ما بدا لي مؤشّرا على تحوّل عميق ونوعي في عقلية الطلبة.
غادرت مكتبي وقبل أن أتوجّه إلى قاعة الدّرس وقفت كعادتي في البهو العالي والعاري للطابق الأوّل، مسرّحا نظري على مدى تلك الحقول الخضراء المحيطة بالمعهد والمقسّمة بأشجار السّرو، في مواجهة لفعات البرد الشديد الذي يُدْمِع عينيّ. عبّأت رئتيّ بذلك الهواء النقي المنعش واستمتعت بما كان يبثّه فيّ من طاقة وحيوية. في ذلك الصباح كان إحساس بالسعادة والارتياح يغمرني. لمّا دخلت قاعة الدّرس، كنت أنظر إلى طلبتي بعين أخرى، تفيض تقديرا واحتراما.
بدأت إلقاء درسي بتعثّر واضح. فقد كان تركيزي مشتّتا إلى درجة أنّني قطعت الدّرس فجأة، لأقول للطلبة دون سابق تمهيد أنّه بفضلهم لا خوف على تونس. كنت أريد أن أستفيض في الكلام ولكنّ فيض الأحاسيس سدّ حلقي وحال دون خروج الكلمات... بعدها أخذتني غصّة لم تلبث أن تحوّلت إلى شهقات مسترسلة لم أستطع السيطرة عليها، فغادرت القاعة.

من يومها، لازمتني هذه الشهقة التي تحوّلت إلى عاهة مزمنة تمنعني من الكلام باسترسال ووضوح، حتّى أحالتني الجامعة على العمـــل الإداري.

بعد وفاتي، وضع اتحاد الطلبة رخامة في ذلك المكان من الطابق الأوّل حيث كنت أقف كل صباح قبل الالتحاق بالدّرس كربّان سفينة، رخامة كتبوا عليها "مرصـــد الشاهق"

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى