بيت الحكمة

أمشـــي حافيا على الأرضية الرخامية الملساء الباردة فتخترقني رجفة كصعقة كهرباء تصعد من أخمص قدمي حتى فروة رأسي... سلسلة لا تنتهي من القاعات الفسيحة، تفضي الواحدة إلى الأخرى... متاهة من الجدران المغلّفة بمرايا عملاقة... في كلّ قاعة أكثر من باب واحد جميعها مشرعة... وعلى الشبابيك المفتوحة تنسدل ستائر مخملية شفافة تلامس الأرضية وتتمايل مع النسمات الرقيقة فتبدو كأنّها ترقص على صوت فيولنسال قادم من إحدى القاعات... تكشف الستائر في حركتها عن شرفات رحبة تطلّ على شاطئ قريب تتكسّر عنده أمواج خفيفة، تلعق رمله الذهبي بألسنتها قبل أن تلفظ أنفاسها مخلّفة رغوة وفقّاعات لا تلبث أن تنطفئ...

أمشي في القاعات الفسيحة النظيفة، العالية الأسقف والفارغة من أيّ أثاث إلاّ من بيانو أسود لمّاع كبير جاثم في إحدى زواياها كفهد، فأرى نفسي جمهورا بفعل تعدّدي في المرايا المتقابلة... لست أعرف إن كنت عاريا تماما أم ملتحفا قماشة بيضاء كالكفن... هنا أتقدّم، وهناك ألتفت شمالا، وفي المرآة المقابلة ألتفت يمينا... في واحدة أخرى أرى وجهي، وفي غيرها يتراءى لي ظهري... أغمض عينيّ هربا من هذا الفخ... نغمات الفيولنسال تنساب كدموع مالحة وساخنة على خدّي فتاة صمّاء، حزينة الملامح، ولكنّها عذبة ورقيقة... يشتدّ انجذابي إلى صوت الفيولنسال الحزين فأتقدّم مهتديا بمصدر الصوت... أحيانا أتخيّل العازف فتاة عارية بالكامل، لا يغطيها سوى شعرها المنسدل على جسد يشبه الآلة التي تعزف عليها. واقفة في الشرفة قبالة البحر، تجرّ القوس على الأوتار فتئنّ الآلة كجريح وتناجي البحر الذي يمدّ لها ألسنة الماء كالساخر من أنّاتها... أحيانا أخرى، يصوّر لي خيالي أنّ العازف عجوز أعمى يرتدي بدلة أنيقة ويضع نظارتين سوداوين ويجلس على كرسي من الخيزران في القاعة الأخيرة وهو يعزف بانتظاري ويرسم على فمه ابتسامة العميان... لديّ يقين بأنّ هناك شخصا آخر في هذا القصر المهجور يراقبني... شخص لا يريد بي شرّا، ولكنّه يتلذّذ بحيرتي وضياعي... مجرّد أنّني لا أراه يجعلني متوجّسا منه...

يشغلني عنه اصطفاق نوافذ الشرفات محدثا إيقاعا يكمّل السمفونية، سنابك خيل وصهيل تتخلّله أصوات نوارس ناعقة.

كم السّاعة الآن؟ وكيف هو الجوّ خارج القصر؟ الزمان موسيقى تضوع في الجو كبخور الشرق والمكان رخام وسقوف عالية ستائر ومرايا... سيّان أن تكون ظهيرة حارقة، أم رذاذ يدغدع سطح البحر عند الأصيل، أم نسمات فجر تمحو غمامته شمس طالعة بهدوء وثبات... الآن وهنا مطلق الزمان والمكان.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى