سي محمّد القمودي وأنا ومنية

فتح أستاذ الرياضة دفتر المناداة وعلّم على خمسة أسماء بقلمه قبل أن يخبــر من وقع عليهم القلم بأنّهم مدعوون إلى المشاركة في اليوم الوطنـــي للعدو الريفي الذي تنظّمه سنويا وزارات التربية والرياضة والدفاع يوم أوّل أحد من شهر مارس. قال سي المستوري أنّ الحضور إجباري ولا عذر للمتغيّبين. وأضاف في محاولة لتحفيزنا: "أنتم محظوظون، فهذا يوم وطني تشارك فيه المعاهد والجمعيات الرياضية والعسكريون من كافة أنحاء الجمهورية. سيشرف على التنظيم البطل الاولمبي محمد القمودي بحضور الوزراء المعنيين وسيكون التلفزيون في الموعد."
حدّد سي المستوري اثنين منّا للمشاركة في سباق الثلاثة آلاف متر والثلاثة الآخرين لسباق الخمسة آلاف متر...
قبلنا بالقدر المسلّط علينا لأنّنا نعي جيدا٠ أنّه لا مجال لمجادلة سي المستوري. فهو عصبي سريع الضرب وسليط اللسان...
أقنعت نفسي بأنّ الثلاثة كيلومترات التي سأجريها لا تعني شيئا أمام العشرين التي كنت أمشيها أيام الإعدادية من الرديف إلى أم العرائس كلّما انقطعت الطريق بسبب فيضان وادي زلاّز... ثم إنّها فرصة لمصافحة الأسطورة محمّد القمودي وأخذ صورة معه. ومن يدري؟ فقد أفوز بالسباق وأفوز بقلب منية التي ظلّت متردّدة بيني وبين محمّد...
قال لي منجي أنّه سيتدبّر أمر الزي لأنّ له تشكيلة متنوعة من التبابين والقمصان والأحذية... وتكفّلت بقية الشلّة بتدليك عضلات ساقيّ بالزيت والليمون كلّ ليلة في المبيت حتى صارت تؤلمني من فرط العرك والفرك...
اكتشفنا يوم السباق أنّ سي المستوري لم يصف لنا الحدث بما يليق بحجمه وأهمّيته، بل بدا لنا هو نفسه متفاجئا بزخم ما يحصل... اكتفى بسؤالنا عن سبب غياب الكامل المبروكي، ثمّ نفث دخان سيجارته بعصبية في الهواء وتوعّد "تي بالحرام ما عاد يعفس دين أمّ الليسي".
اختار المنظمون أن يجري السباق في الجزء الرابط بين ثكنتي أحمد التليلي الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات خارج مدينة قفصة والثكنة الفرعية الموجودة داخل المدينة. جمّعونا أمام نقطة الوصول بثكنة المدينة ووزّعوا علينا أرقاما طلبوا منّا إلصاقها بقمصاننا. وأعلموننا أنّه يجب تسليمها عند خطّ الوصول إلى عضو لجنة التحكيم. كانت هناك منصّة خشبية مغلّفة بالسجّاد والمنسوجات التقليدية الفاخرة، من الواضح أنّها مخصّصة لضيوف الشرف من الوزراء وكبار المسؤولين. وفي الناحية المقابلة كانت هناك منصّة أخرى أقل فخامة تبث أغان وطنية لم ينته المنظّمون بعد من تعديل مضخّمات صوتها. خمّنت أنّها مخصّصة للصحافة أو للتنشيط. نُودِيَ علينا ثمّ أركبونا شاحنة عسكرية مكشوفة نقلتنا إلى نقطة الانطلاق خارج المدينة... كانت الجماهير قد بدأت تتجمّع على حافتي مسار السباق، حيث ركّز المنّظمون سياجا حديديا فاصلا بين مسار السباق والطرق الفرعية المؤدّية إليه. وعلى طول المسار كانت أعلام الزينة ولافتات الترحيب ترفرف...
لاحظت وجود مسار مواز قال لي أحد الجنود المرافقين لنا على ظهر الشاحنة أنّه مخصّص لسيارات الإسعاف والمشرفين على التنظيم.
كان سي محمّد القمودي هناك في انتظارنا يشرف على كلّ كبيرة وصغيرة. يصافح كلّ فرد من المشاركين ويرفع من معنوياته بلهجته الريفية التي تنفذ بصدقها وعفويتها مباشرة إلى القلوب فتلهبها حماسا...
تجمّعنا على خط الانطلاق، وأمسك سي محمّد القمّودي مصدحا يشرح من خلاله قواعد السباق وينبّهنا إلى الأخطاء الإقصائية... قال أنّه يرى بين هذه الكُرْعين المتزاحمة على خطّ الانطلاق كُرْعِين أولمبية.

حدثت نفسي: "هذا وليُُّ صالح من أحباب الله وليس عقيدا بالجيش" لكنّه قطع تأمّلاتي بصافرته فانطلقنا...
كان التنافس على أشدّه في البداية. كلّ متسابق يعطي ما عنده. لا أحد يفكّر في ادخار الجهد وتوزيعه على طول المسافة.. وبدا واضحا أنّ الحسم سيرتبط بالقدرة العضلية وأداء الرئتين... كان سي محمّد القمّودي يقف خارج نافذة سيارة ممسكا بالمصدح يحثّنا على الصمود وتجاوز ضعفنا...
لم نكد نقطع مائتي متر حتى حصل فرز أوّلي جعل كوكبة المتميّزين تنفصل عمّن لا علاقة لهم بالعدو وبالرياضة...
كان السباق شاقا ومرهقا نظرا للنسق العالي الذي يفرضه التنافس، لا علاقة له بالعشرين كيلومترا التي كم مشيتها بين الرديف وأم العرائس... كنت بالكاد أقوى على تحريك قدميّ، وكانت الصور تبدو أمامي ضبابية، حتّى أنّني فكّرت أكثر من مرّة في الانسحاب وعدم إنهاء السباق... لكن مجرّد التفكير في سخرية زملائي وخصوصا في صورتي عند منية التي لا شكّ أنّها ضمن الحاضرين، كان يحفّزني على الاستمرار...
أخيرا، لاح لي خطّ الوصول وارتفعت صيحات الجمهور المتدافع بانتظار العدّائين، فأعاد لي ذلك شيئا من حيويّتي... كان التلاميذ على حافتي الطريق ينبّهونني إلى وجود عدائين خلفي بدؤوا يقتربون منّي ويحفزّونني على الصمود في ما تبقّـــى من أمتار... دخلت خط الوصول تقريبا في نفس اللحظة مع متسابق آخر لولا أنّني سلّمت الرقم المثبت على قميصي قبله...
سارع زملائي إلى حملـــي على الأعناق صائحين مهنّئين وأنا في حالة من الإنهاك لم تكن تسمح لي بأن أشرح لهم أنّني آخر الواصلين من سباق الثلاثة آلاف متر، وأنّ الذي دخل خط الوصول معي هو الفائز في سباق الخمسة آلاف متر الذي انطلق بعد سباقنا بنصف ساعة...
لم يكن أحد يحفل أو يفكّر في صعود منصّة التتويج واستلام الميدالية... لقد قضي الأمر وتوّجني أصدقائي بطلا رغما عنّي وفزت بقلب منية وهزمت محمّدا...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى