الوصيّة


كان يمكن لاختلافهم بشأن الوصيّة أن يحتدّ إلى درجة اللاعودة. قالت أخته اليامنة وهي ترفع رأسها إلى السماء كأنّها تطلب له الشفاعة "الله يسامحك يا محجوب متعبنا حي وميت"... والحقيقة أنّ رضا قرّر التظاهر بعدم الإصرار على تنفيذ الوصيّــة ما إن فرغ من قراءتها ولاحظ ردود الفعل. لا أحد كان يفكّر بوجود وصية أصلا، لولا أنّ رضا وأخته منجية اللذين يعيشان مع المرحوم أعلما بقية أفراد العائلة بذلك. فما الذي يملكه الرايس محجوب حتى يوصي به غير قاربه الذي يعلم الكلّ أنّه كتبه لرضا منذ حياته. وكان ذلك أمرا منطقيا لم يعترض عليه أحد لأنّ رضا هو الوحيد الذي ظلّ يسرح مع والده على ظهر القارب للصيد. أمّا بقية إخوته فقد وزّعتهم صروف الحياة ما بين العاصمة والهجرة. لمّا أعلمهم المرحوم بالأمر باركوه جميعا، حتى أخته منجية لم تر في ذلك حيفا، خصوصا أنّ رضا طيّب خاطرها لمّا وعدها بأنّ شكّ السمك سيظل يصلها كما عودّها الوالد. وحتى لما أصرّ رضا على فتح الوصية وقرأها على مسامعهم، كاد أغلبهم أن يضحكوا ممّا جاء فيها، واعتبروه من باب الطرافة التي عوّدهم بها المرحوم في حياته.

كان الرايس محجوب على بساطته، رجلا متفرّدا، كأنّه شخصية روائية أو سينمائية. فلسفته عن البحر مزيج من أساطير الجدود ونتف من أدب البحر وصلته بالسماع وحكمة شخصية نحتتها تجربته الخاصّة... كلّما ركب قاربه ويمّم صوب الماء ودّع اليابسة بنظرة خاطفة لا مكان فيها للأسف أو الحسرة. يعيش ليومه فقط لا يدّخر فلسا واحدا للغد. فهو يؤمن بكرم البحر الذي سيعوّض له غدا ما يصرفه اليوم... هكذا كان كريما ومحبا للحياة يعيش كل لحظة بامتلاء أقصى. لا وقت له للحساب والحذر والتأسف على ما فات... لا تهمّه إلاّ اللحظة الرّاهنة... أمّا القادم فمرحبا به مهما كان... يحب الشرب والغناء والجنس وتسكره رائحة البحر وإفرازاته. مقتصد في الكلام، لأنّه كما قال لرضا ذات مرّة وكانا يشربان نخبا على ظهر القارب في ليلة مقمرة يؤمن أنّ كثرة الكلام تجعل منه تعويضا عن الحياة الفعلية، فيعيش الإنسان في الكلمات بدل أن يعيش في الواقع. يكاد لا يطأ الأرض وهو يمشي، يتنقل كسمكة تسبح في الماء.
"ألقوا بي في البحر. أكره ظلمة حفرة القبر وضيقها. أمّا البحر فقبر فسيح ومضاء... أريد أن أظلّ سابحا في الماء والملح حتى أتحلّل... وإذا أكلتني الأسماك التي كم أكلت منها، فذلك أفضل من أن تقرضني الديدان."
ساد صمت ثقيل سمع خلاله رضا تمتمات عمّته اليامنة وهي تطلب الشفاعة للرايس، فأشفق على بساطة عقلها. وعلّق ذلك الأحمق زوجها دون أن يوجه كلامه إلى رضا مباشرة "إكرام الميّت دفنه"... وردّدها بعده أغلب الحاضرين. أيقن رضا أنّه لا فائدة ترجــى من مجادلتهم. وتذكّر حكمة الرايس محجوب عن الاقتصاد في الكلام.
"على أيّة حال، لا دفن قبل وصول ابن المرحوم من إيطاليا يوم غد."
كانت تلك الجملة التي ألقتها عمّته اليامنة حبل نجاة لرضا الذي لمعت في ذهنه الفكرة واضحة مكتملة المعالم والخطوات كأنّما خطّط لها في سعة من الوقت.
"على الأقل، لنتركه يقضي الليلة مسجّى في زاوية سيدي البوهالي بجانب الناظور قبالة البحر."
لما توغّل الليل، وكانت تلك الشمعة ترتعش عند رأس المرحوم مؤذنة بقرب انطفائها، غفت اليامنة قليلا... عندها قدّر رضا أنّ اللحظة مناسبة وأنّ أي تأخير سيؤدّي بالرايس محجوب إلى حفرة الدّود المظلمة...
من أين جاءته تلك الطاقة كي يمشي في الرّمل باتجاه القارب حاملا على ظهره جثة الرايس... شغل المحرّك وراح يربط الجثة إلى تلك الصخرة التي فهم لماذا كان الرايس محجوب يحتفظ بها على ظهر القارب ويسمّيها المخدّة...
بعدما توغّل ميلا أو أكثر في البحر نفّذ الوصية كما أراد صاحبها وأحسّ بالارتياح... عبّأ رئتيه بالهواء الطري ورأى الشمس تطل بقوسها الساطع من وراء الماء، وقرّر أن يتبادل مكان الإقامة في إيطاليا مع شقيقه.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى