بروفــــة

على غير عادتي، أفقت اليوم ليس بسبب التعرّق والرغبة في إفراغ مثانتي بل بسبب حلم غريب... لم يمهلني حلمي كي أحرّك أصابعي منتظرا أن تستفيق وتدبّ فيها الحياة. حاولت النهوض مستندا على كفّ يدي فوجدته كالخشبة ليس قطعة من جسدي...

لم يكن كابوسا مرعبا من نوع المطاردات والمحاصرات والاختناقات...

علي أن أعترف أنّنا ما كنّا صديقين مقرّبين في حياته. معرفتنا لا تتجاوز تبادل التحايا كلّما تقابلنا. لم أكن أسعى إلى التقرّب منه والتودّد إليه رغم كوني من أشد المعجبين بنصوصه. وكان لديّ يقين بأنّه يدرك ذلك ويقدرّه. ذلك كان يكفيني لأعتبر علاقتي به مميّزة. ولكنّه ليس سببا كافيا كي يزورني في الحلم بعد أربع سنوات من وفاته.
رأيته جالسا في الصف الأمامي من كراسي قاعة عروض ابن رشيق. القاعة فارغة تماما ومظلمة. بدا كمخرج يدير بروفة مسرحية. أمام وجهه كان يتدلّى من السقف العالي مايكروفون كحبل مشنقة... ساق على ساق وهو صامت ينفث دخان سيجارته، دخانا أسود كذاك الذي تنفثه المصانع والشاحنات الهرمة... أين كنت أنا؟ لعلّي كنت أجمع بقايا ديكور وأكسسوارات فوق الرّكــح. للحظــة، تقاطعت نظراتنا في الظلام، بدونا لبعض كقطّين متحفّزين. أربع نقاط ضوئية تلمع في الظلام. كانت دقات قلبه تسمع من خلال المايكروفون المتأرجح في حركة بطيئة من اليمين إلى الشمال كرقّاص ساعة جدارية، ويتردّد صداها في أرجاء القاعة. كان المايكروفون يضخّم زفرته وهو ينفث دخان سيجارته فيحوّلها إلى تيّار هوائي يحرّك ستارة الركح ويدفع دفّتي باب الدخول فتضطرب باتجاهين متعاكسين مخلّفة صريرا ينذر بأنّ أمرا جللا على وشك الحدوث.... أمر جلل كالحريق، أو لعلّه زلزال يهدم القاعة على من فيها... تهيّا لي أنّ خفافيش تطير في فضاء القاعة وتلوذ بالكواليس وراء الستار... كلّما حزمت أمري في التعجيل بجمع ما تبقّـــى من الإكسسوارات المتناثرة على الرّكـــح، وجدتها تتكاثر من حولي. كأنّما كان يغافلني ويرمي بالمزيد منها على الرّكـــح في نزق وشماتة. أسنان حوت وجماجم بشرية وخناجر ومخطوطات قديمة وزهور مجفّفة وطيور محنّطة...
فجأة وقف يصفّـــق في الصّمت المطبق، فبدا تصفيقه كطلق الرّصاص... ثمّ تنحنح كالرّعد بحنجرته المتحشرجة... هل كان يستعدّ لإلقاء قصيدة جديدة؟ أم ليدعوني إلى التوقّف عمّا أنا فيه من سعي عبثي. هل قال لي "نلتقي غدا في بروفة جديدة" أم أنّها من إضافات اليقظة؟؟...
لست أدري هل أنّ تلك المناطق الغائمة بين الممكن واللاممكن، بين الواضح والمبهم هي أسوأ ما في الحلم أم أجمل ما فيه...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى