النفة الخضراء

تخلد الكائنات إلى الرّاحة في وقت ما من اليوم. تنام وتسترخي وتكف عن الحركة حتى تسترجع أنفاسها وتجدّد طاقتها. تلك سنّة الحياة وناموسها. ولكنّ نهش لحم الجبل واستخراج الفسفاط منه لا يتوقّف في قريتنا. يسير العمل بنظام التناوب بين ثلاث دوريات تدوم الواحدة منها ثماني ساعات، طوال أيام الأسبوع دون توقف. وتقدّم الشركة للعمّال حوافز مغرية تجعلهم يقبلون العمل حتى أيام الأعياد الدينية والرّسمية، بل ويتنازلون عن إجازاتهم السنوية فيعملون للحصول على راتب مضاعف.

تفرغ القاطرات تلك الصخور التي تخرجها من جوف الجبل على بساط مطاطي متحرّك يتولّى نقلها إلى المغسلة على بعد بضع كيلومترات. وهناك تطحنها آلات عملاقة وترمي بها في أحواض مائية عملاقة مجهّزة بغرابيل تفصل الفسفاط عن الغبار الدقيق الذي يعلق بالماء ويخرج عبر الغرابيل. وفي مرحلة أخيرة يقع تجفيف الفسفاط النقي حتى يصير مسحوقا ناعما أخضر يميل إلى السواد وله رائحة مميّزة لا تخطئها أنوف من تعوّدوها.

على أيامنا لم تكن معالجة الفسفاط تتم على هذا النحو، فقد كانت عربات القطار السلحفاتي هي التي تنقل الفسفاط إلى مطحنة جافة تكسر الصخور وتشغّل مراوح عملاقة تدور بقوة لتطرد الغبار عبر أنابيب عمودية فينتشر كالسحب الكثيفة في السماء قبل أن تنقله الريح ويتساقط على المنازل والأشجار. أمّا الفسفاط فيفرش في مساحات شاسعة ويرش بالماء ثمّ تمرّ عليه آلات ميكانيكية تقوم بنبشه وتحريكه حتى ينفصل التراب عن الفسفاط ويترك أياما معرّضا لأشعة الشمس حتى يجف.

كنّا نحن الأطفال مهووسين بأسئلة عديدة عن الفسفاط لا نجد لها إجابات مقنعة من طرف الكبار. كنّا نعرف عن النفط واستخداماته وقيمته الاقتصادية ولا نعرف شيئا عن الفسفاط. أذكر كيف اضطرّت أزمة البترول سنة 1973 الأوروبيين إلى استخدام الخيول والدراجات الهوائية كوسائل نقل من جديد وكيف عادوا إلى التدفئة باستخدام مدافئ الحطب، وكيف شلّت طائراتهم ومصانعهم. كنّا على يقين أنّ الفسفاط ثروة اقتصادية هامّة، وإلاّ ما كانت الدّولة لتخصّص له كلّ تلك القاطرات والشاحنات والمعدّات الميكانيكية الضخمة ولتخاطر بإرسال آلاف العمال إلى أعماق الأرض فتبتلع البعض منهم بين الفينة والأخرى. ولكن هل له نفس قيمة البترول؟ ما هي استخداماته؟ لماذا لم يجعل منّا دولة غنية مثل جارتنا ليبيا؟ لماذا انقطع عمّي عن العمل بالمنجم وهاجر إلى ليبيا للعمل في شركات التنقيب عن النفط في صحراء ليبيا؟ لا أحد من الكبار كان بإمكانه تقديم إجابات شافية لأسئلتنا. كانت أمّي في البداية تجتهد في إقناعي بأنّ الفسفاط يصلح لاستخراج مكوّنات تستخدم في سكّ العملات المعدنية وأنّ جميع العملات في العالم أصلها من الفسفاط. ولكنّها بعد سنين طوّرت نظريتها وصارت تقول لنا أنّ الفسفاط يستخدم لصناعة أنواع كثيرة من الأدوية. أمّا أبي فكان يقول أنّ الفسفاط يستخدم في صناعة ذخيرة الأسلحة المتطوّرة. أنقذت هذه الأجوبة لفترة والديّ من محاصرتي لهما بالأسئلة المزعجة. ولكنّ اقتناعي بها كان يتراجع كلّما كبرت في السنّ. وهكذا عادت أسئلتي لتنشط في دماغي من جديد وتلحّ عليّ في الإجابة عليها بنفسي، حتّى صرت مهووسا بها أحملها معي أينما ذهبت.

صيف الجنوب الصحراوي شديد الحرارة والجفاف. يعاني الناس طوال اليوم من لفح الشهيلي الذي يصهد جباههم وييبّس شفاههم حتى تتشقق ويسيل منها الدم. يلزمون بيوتهم إلى غاية الغروب حيث يخرجون لرش الأرضيات والجدران بالماء فتتبخّر كأواني شائطة. بعد العاشرة ليلا يهب نسيم يلطّف الجو ويلين به المناخ. عندها فقط تنبسط أسارير الناس ويخرجون بكبيرهم وصغيرهم للسّمر. تجتمع النسوة فوق السطوح فيما يتمدّد الرجال عند أكداس الرمل على حافة الشارع الرئيسي للحي. يجلب كلّ واحد ما تيسّر من أكل أو شرب. بطيخ مثلّج وشاي وفول سوداني محمّص. وتنطلق الألسن بأصوات خفيضة فيجري الحديث عفويا من موضوع إلى آخر في سمر هادئ ومنساب على خيط الوقت تحت تلك القبة السوداء المتلألأة بالنجوم

تعودت الجلوس على سياج الجامع تحت فانوس التنوير العمومي في الجانب الآخر من الشارع العام. أجلب معي مجلّة أو كتابا وكأس شاي منعنع وبعض سجائر. أنهمك في القراءة تؤنسني أصوات الرجال التي تصلني كالهمس تقطعها أحيانا ضحكة نسائية قادمة من السطوح... يرهقني الضوء الهزيل لعمود التنوير العمومي ويمنعني من الاستمرار في القراءة فتستيقظ أسئلتي حول الفسفاط واستخداماته.

في تلك الليلة كنت في مكاني المعتاد منهمكا في القراءة، أمرر بين الحين والآخر كفّي على وجهي لأمسح ذرّات الفسفاط المتساقطة من الهواء وأشخر كخنزير لتسريح منخريّ من الغبار المتسلل إليهما، لمّا لفتت انتباهي كتلة هلامية بيضاء تتحرّك في عمق الشارع ناحية السوق تحت عمود التنوير العمومي. هل كانت قطعة قماش يحرّكها النسيم؟ ما سرّ اقترابها باتجاهي منتقلة من عمود إلى آخر؟ تكبر كلّما اقتربت أكثر، دون أن تتوقّـــف عن الاهتـــــزاز. هل هي دوّامة هوائية صغيرة تتحرّك مقتربة؟ ربّما... حاولت العودة إلى القراءة ولكنّني لم أستطـــع التركيز، فقد ظلّ طرف عيني يرنو ناحية تلك الكتلة البيضاء المتقدّمة باتّجاهي. لمّا صارت على بعد عمودين أو ثلاثة تبيّنت أنّها طيف آدمي كان يرقص على صوت أغان شعبية قادمة من بعيد تختفي وتظهر من جديد متماوجة مع حركة النسيم، ومسنودة بسمفونية من أصوات الصراصير الجذلــــى. وقف علي الشريف مترنّحا على بعد أمتار مني وهو يحك أسنانه ببعضها، وقال بلسان أثقله السكر: "علي الشريف يرقص لا خوفا لا طمعا". سحب من جيبه علبة معدنية مستديرة وفتحها ليتناول ممّا تحتويه قليلا ما بين سبّابته وإبهامه ثمّ استنشقه بقوّة في منخريه. في تلك اللحظة بالضبط، لمع في ذهني تفسير بدا لي منطقيا وبديهيا. وسرعان ما تحوّل إلى قناعة راسخة. هكذا اكتشفت أنّ الفسفاط يصلح لصناعة النفّة تلك المادّة المعدّلة للمزاج والمزوّدة بالطاقة والحرارة. ورحت أتخيّل كيف أنّ جميع الدّول تستورد النفة من عندنا وأنّنا إلى جانب المغرب من أكبر الدول المصدّرة للنفة في العالم. كنت متحمّسا لاكتشافي ولم تكد تشرق شمس الغد حتى انطلقت أشرح نظريتي لأترابي في الحي ولم أجد صعوبة في إقناعهم بوجاهتها. هكذا، صرنا نستنشق الفسفاط في مناخيرنا ونخزنه تحت ألسنتنا.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى