تونس ما بين ثقافة المدينة ومدينة الثقافة

جلال الرويسي، مسقط 2023

ظللت لسنوات طويلة قبل الثورة، كلّما مررت أمام مدينة الثقافة التي تحوّلت من حلم طموح إلى حطام مالح، أقول في نفسي "آه، لو أصير مديرا لها يوما ما"...

ولد حلمي بإنشاء مدينة للثقافة قبل أن يظهر المشروع أصلا.. ولد وترعرع أثناء إقامتي بفرنسا في تسعينات القرن الماضي من خلال زياراتي لمتحف اللوفر، ومركز بومبيدو ومعهد العالم العربي والمكتبة الوطنية ومدينة لافيلات الثقافية وبيت علوم الإنسان La Maison des Sciences de l"Homme   والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي Muséum national d'Histoire naturelle   ومتحف غريفان للشمع Musée Grevin وحدائق التويلوري les jardins des Tuileries . وجميعها تقع في باريس عاصمة الأنوار.

ترعرع حلمي وكبر في خيالي على هضبة مونت مارتر، عند طاولات المطاعم في جادّة شارع الفنّانين الضيق المطلّ على باريس من عَلٍ، حيث كنّا نسكر بالنبيذ الجيّد وبأنغام كمان ذلك العجوز الغجري الذي تمزج أصابعه الحزن بالفرح. كنت أحمل حلمي في رأسي كمهووس، وأنا أتسكّع في الأنهج المطلّة على ساحة سان ميشال حيث آكل السندويتشات اليونانية اللذيذة والبيرّة، وحيث المقاهي القريبة من ذلك الهرم العلمي المسمّى "جامعة السوربون"، مقاه تثبّت على طاولاتها الخشبية صفائح معدنية كتب عليها "هنا كان يجلس جون بول سارتر ليناقش طلبته ويوزّع مجلّة "الأزمنة الحديثة". كان صدري يمور بحلمي كبطن حبلى يتخبّط فيها جنين وأنا أتمشّى على ضفاف نهر السين حيث تصطفّ صناديق باعة الكتب القديمة، إلخ.

ذات صيف قرّر عمدة باريس، أن يستدعي البحر إلى باريس حتّى يروّح على أنفس الباريسيين الذين منعهم تواضع إمكانياتهم من الذهاب إلى البحر في عطلة صيفية. نامت باريس لتفيق على شواطئ رملية فسيحة مفروشة على ضفاف السين... فنصب الباريسيون شمسياتهم واستضافوا البحر... وفي الليل كانت جميع الساحات الخضراء المعشّبة تتحوّل إلى ساحات حفلات غنائية راقصة أو فضاءات لعرض الأفلام في الهواء الطّلق... كنت مدهوشا أمام هذا الجنون الخلاّق المبدع لدى الباريسيين. وممنونا لصديقي حبيب عبد الحق الذي لا يقلق أبدا من استضافتي في شقّته ويمنعني من العودة إلى مدينة ليون حيث أقيم... لكنّ زاوية ما في قلبي كانت تنضح بالشجن فتشوّش عليّ متعتي بسحر باريس... كان حبّ تونس يدفعني في كلّ مرّة إلى التساؤل المرّ عن أسباب أن لا تكون تونس مثل باريس... كنت في تلك المرحلة، أسقط كلّ ما أراه في زوايا باريس على أماكن في تونس... هكذا كنت أحوّل ساحات باستور وإفريقيا وحقوق الإنسان إلى ساحات احتفالية... وهكذا كانت حديقة الباساج المسكونة بالصعاليك والمهمّشين تتحوّل إلى حدائق التويلورّي التي استقبلت مائوية أم كلثوم، وكان شارع بورقيبة يصير رديفا في ذهني لشارع الشانزيليزي، وكانت مطاعم نهج مارسيليا تصبح أجمل في خيالي من مطاعم مونتمارتر، وكاباريهات مون سنيور وكرايزي هورس والأدغال أكثر سحرا وإثارة من كاباريه الطاحونة الحمراء(Le Moulin Rouge)  الذي خرج منه كبار الفنانين العالميين مثل إيديت بياف. وكنت أرى مومسات تونس الشريفات اللواتي صرن مثقّفات من فرط مجالستهن للشعراء والرّسّامين والممثّلين أكثر ثقافة وتألّقا من مومسات باريس.... وكنت أخلق بخيالي مسارح جيب des theatres de poche  في مطاعم لاماما والبوسفور والبوليرو بتونس...

كان خيالي في تلك الفترة لا يتجاوز مجرّد الاستنساخ والإسقاط، متجاهلا الخصوصيات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين البيئتين. وكان لذلك مبرّران رئيسيان أوّلهما تأثير مخلّفات الاستعمار المعمارية التي جعلت من تونس في جزء كبير منها مدينة على الطراز الأوروبي، وثانيهما الانبهار بالزخم الثقافي والثراء الفني لباريس...

كان هناك في نفس تلك الفترة مثقّفون تونسيون يعملون في صمت على صيانة مدينة تونس العتيقة وترميمها وعلى تأسيس المهرجانات والفعاليات الثقافية ذات النكهة التونسية الصميمة دون انغلاق على الهوية...

ولكن في نفس الوقت كان هناك قوّادون وسماسرة ثقافيون يحبّرون التقارير والوشايات ويخرّبون ويخدمون رؤساء عصابات ومهرّبي آثار ومخطوطات... ظهر مشروع مدينة الثقافة في تلك الفترة كحلم فرعوني لدكتاتور يبحث عن تلميع صورته. وكنّا جمعا من الأصدقاء نتهامس ضاحكين كلّما مررنا أمام المبنى العملاق لدار التجمّع بشارع محمّد الخامس أو النزل والقصور الفاخرة بضواحي قرطاج والمرسى، أو غيرها من إنشاءات السابع من نوفمبر قائلين: "دعوهم يشيّدون، فهذا أفضل من تهريب العملة إلى البنوك السويسرية، لأنّ العقارات ستصادر ذات يوم وتتحوّل إلى جامعات ودور ثقافة ومتاحف ومستشفيات"... كنت أتمنّى أن أصير مديرا لمدينة الثقافة، فأؤسّس لها مجلسا علميا من القامات الفنية والثقافية المرموقة يضع لها برامجها وسياساتها، وأكتفي أنا بدور المدير التنفيذي... ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك أشحاصا كثيرين أكفأ منّي وأوسع تجارب واطّلاعا... ولكن من يضمن أن يكلّف بها واحد من هؤلاء. فأنا أعرف كواليس وزارة الثقافة وقدرة السماسرة والقوّادين على توجيه سياسات أي وزير مهما كان متنوّرا. فقد يجثم على تلك المدينة مستكرش قوّاد من بيروقراطيي وزارة "السّخافة" ويحوّلها إلى بوق دعاية نوفمبرية رخيصة... ولكنّني كنت عاقدا العزم أن أديرها حتى بخيالي وأحلامي... كنت أسجّل أفكار البرامج الثقافية والفعاليات الفنّية وأتخيّل أصناف المطاعم والمقاهي التي ستكون هي في حدّ ذاتها مكوّنات ثقافية تعرّف بالمطبخ التونسي وبمطابخ العالم، وأجعل ممرّاتها ومماشيها متاحف طبيعية تعرّف بنباتات المتوسط وأعشابه الطبّية، وكنت أتخيّل جداريات من الجليز الأندلسي تغلّف الجدران وزرابي القيروان ومرقوم قفصة مفروشة في القاعات والمكاتب، كنت أحلم بأن تجد كل الشرائح العمرية والاجتماعية ما يناسبها من منتجات ثقافية، من الرضّع إلى الشيوخ ومن متواضعي التعليم إلى خرّيجي الجامعات... كنت أرى ورشات إنتاج موسيقي وباليهات رقص وفرق مسرحية وجناحا للجمعيات الثقافية وصالونات أدبية ومكتبات للمطالعة وإقامات للفنّانين... كنت أرى التنصيبات والتماثيل مزروعة في ساحات المدينة وفضاءاتها، وأرى معارض للأزياء وللّوحات التشكيلية ووو... كنت أخصّص أماكن لبيع الكتب والتحف الفنّية وأشرطة الفيديو والدي-في-دي والموسيقى... بنيت قاعات سينما كبيرة وصغيرة وقاعة عروض فرجوية عملاقة... وأسّست مهرجانات مجدّدة في شكلها ومحتواها، وأغدقت نعم مدينة الثقافة على محيطها العام فأكثرت من المطاعم والحانات والمقاهي والساحات والنزل ونشرت السياح في شارع محمّد الخامس الذي غيّرت اسمه ليصير شارع الخضراء قياسا على شارع الحمراء الشهير في بيروت وجعلتهم يتفرّجون على عروض الشارع الفنّية والبهلوانية التي يقدّمها فنّانون من تونس ومن إفريقيا ومن كل بلدان العالم في حرّية... وكنت أحسّ براحة وسعادة لا توصفان بعدما أفرغ من تأثيث مدينتي الفاضلة. وأصرّ في قرارة نفسي أن أحاصر بأحلامي من يسمّى على رأس مدينة الثقافة بوصفها اقتراحات صادرة عن جماعة ضاغطة اسمها جمعية أصدقاء مدينة الثقافة. كنت أتابع كلّ كبيرة وصغيرة على تقدّم الأشغال والبرامج الثقافية التي يخطّط لها محمّد زين العابدين مدير وحدة التصرف حسب الأهداف المشرفة على مشروع مدينة الثقافة... كنت ألتقي فريق الدكتور بالوزارة في اجتماعات دورية تتزامن مع اجتماعات اللجنة الوطنية للاستشارة الوطنية حول الكتاب والمطالعة التي كنت عضوا فيها، فتنتابني الرّغبة في حضور اجتماعات وحدة التصرّف حسب الأهداف بدل اجتماعات اللجنة الوطنية للاستشارة... ولمّا تعوزني الحيلة ويستبدّ بي اليأس كنت أقول: دعهم يشيّدون حتّى نربح العقار على الأقلّ وبعد الثورة، التي كانت رائحتها آنذاك قد بدأت تفوح، سنرى....

جاءت الثورة بعد ذلك، ومنعت إكراهاتها أن يكون إتمام مشروع مدينة الثقافة الذي ظلّت أشغاله معلّقة منذ 2008 من أولويات البلاد والعباد. وفي الأخير تمّ تدشين القسط الأوّل منها سنة 2018. لكنّ إقامتي خارج تونس منعتني من زيارتها لأكثر من خمس سنوات، إلى أن تيسّر لي ذلك مرّتين خلال إجازتي الشتوية لسنة 2023.

تزامنت الزيارة الأولى مع تنظيم معرض الكتاب التونسي في البهو الرئيسي للدّار. وقد حالت إقامة الأجنحة في شكل حرف U اللاتيني دون استيعابي لمعمارية المبنى بشكل واضح. هذا بالإضافة إلى ارتباطي بموعد لا يمكن إخلافه مهما كانت المبرّرات مع صديق عزيز، حتى أنّني لم أف بوعدي لصديقي التيجاني زايد بأن أشرب معه قهوة في جناحه، جناح دار مسكلياني. المعذرة يا تيجاني فأنت أعلم الناس بأنّه لا يجوز لعاقل أن يتخلّف عن موعد مع الشاماكو.

في المرّة الثانية وصلت إلى تونس قادما من توزر فجر يوم السبت 4 مارس، وكنت سأسافر إلى مسقط في الرابعة ظهرا. صار من طقوسي أن أختلي بالمدينة فجرا متهجّيا تفاصيلها كلّما كنت راجعا إلى مسقط. كان فج الريح بباب عليوة يرسل سيوفا من البرد تطوّق جمجمتي حديثة الحلاقة فتكاد تطير بسقفها، وكان الإسفلت المبلّل برذاذ خفيف أقرب إلى نتف الثلج يعكس أنوار الفوانيس العمومية فيجهر عينيّ اللتين أرهقهما السهاد.

طريقتهم في اصطياد المسافرين عند بوابة قاعة الوصول، تجعلني لا أكنّ أيّ احترام لأصحاب التاكسي رغم هاتف داخلي ينبّهني إلى أنّهم من الكادحين الذين يستيقظون باكرا في البرد جريا وراء الرزق.

الكادحون، أعلم أنّ اتحادهم ينظّم مسيرة مناهضة لقيس سعيّد في ذلك الصباح.

خيّرت امتطاء الميترو إلى ساحة برشلونة على المشي كعادتي في السابق. أعترف أنّني استوحشت من الظلمة والبرد وخفت أن يخرج لي صعلوك من أحد أزقة سيدي البشير أو شارع المحطّة، فيجرّدني من حقيبتي ويشوّه وجهي. وأقنعت نفسي بأنّ ركوب المترو فجر يوم السبت فرصة لاكتشاف فئات الكادحين القاصدين ربّهم إلى العمل. تفاجأت بغلبة النساء على الرجال في ذلك الوقت وقدّرت أنّ الأمر يعود إلى كونهنّ من منظّفات الشركات والإدارات. أمّا الرجال منهم فخمّنت أنّهم من نوادل المقاهي وعملة السوق المركزية.

كان شارع بورقيبة يعجّ بأعوان الأمن من جميع الفرق والتشكيلات استعدادا منهم لصبيحة ساخنة في مواجهة متظاهري الاتحاد. شاحنات تفرغ الحواجز الحديدية عند مداخل شوارع باريس ومرسيليا والقاهرة وقرطاج، إلخ. ومدرّعات خفيفة تتمركز في مفترقات الطرق. وضبّاط بنجوم تلمع على الأكتاف يصدرون التعليمات ويديرون العمليات. دلفت إلى مقهى الكابتول وهو الوحيد المفتوح في ذلك الوقت. فوجدت نفسي وسط كوكبة من أعوان الشرطة ينتمون إلى أسلاك مختلفة. لم يكن يبدو عليهم أيّ نوع من الضيق أو التوتّر. كانوا يتبادلون تحايا الصباح والنكات. وقفت جانب آلة عصر القهوة طلبا للدفئ وأخرجت من حقيبتي "الاشتياق إلى الجارة" لألوذ بصفحاته في انتظار طلوع النهار. لكنّ سماجة النكات وفضاعة صوت القابض الواقف إلى الكاسة منعاني من التركيز. كان يتباهى بغمراسن وفطائرها في مقاومة البرد ويسخر من شاربي الكابوسانات التي لا تجدي نفعا مع برد كهذا. "كعيبة كرواسّون سخون وبنين للبيّة"، تلقّفها شرطي ليشاكس العامل على آلة القهوة وكان أسود البشرة: "سمعت عرفك يا كحلة؟ يعرف الباهي لشكون يتعطى؟" وغمز وراء امرأة ملفوفة لا يظهر منها سوى عيناها. فعالجته دون أن تلتفت إليه: "يعطيك دنيّة وكعبة ملويّة في ظهرك محشيّة". قهقه المقهـــى بكامله فغادرت دون أن أنهي قهوتي وأنا أفكّر في حال هذا الشعب الذي ينام ويصحو على البذاءة متوهّما خفة الرّوح وتذكّرت صباحات دمشق وتحايا الناس هناك. من حسن حظّي أنّ مقهى باريس كان قد فتح. وهناك قرأت حتى طلعت الشمس وتسارعت حركة الشرطة. كنت في الأثناء قد حسمت أمري بعدم حضور المظاهرة لتحفّظي على قيادة الاتحاد ومواقفها وممارساتها. وخيّرت تخصيص الصباح بكامله لزيارة استكشافية لمدينة الثقافة، زيارة ظللت أؤجّلها لأكثر من خمس سنوات.

من مقهى باريس إلى شارع باريس إلى شارع غانا والتفاتة خاطفة إلى لبلابي الحطاب الذي يتحمّل جزءا من المسؤولية على ما انتهى إليه وضعي الصحي. ثم انعطافة إلى شارع جون جوريس. في الحضيرة التي تقع وراء جامع الفتح كان هناك مشرّدون طاعنون في السنّ ينامون مفترشين الكراتين. وبعدها انعطافة إلى اليمين في شارع القرش الأكبر باتجاه شارع محمّد الخامس. عند الزاوية كانت تلك الجامعة الخاصّة لا تزال هناك في مقرّ تأسيسها عند بداية القرن. هل مازالت تبيع الأوهام وتتحيّل على الطلبة الأفارقة كعهدي بها؟

عند وصولي شارع محمّد الخامس، ولّيت وجهي نحو أريانة فتراءى لي برج مدينة الثقافة بكرته الزجاجية المنتصبة على عمود  كعش لطائر الحاج قاسم الشهير عندنا. ثمّ  بدا لي البرج كناظور يدعوني إلى شاطئ السلام. تسلّحت بما تعلّمته خلال دراستي من أنّ المباني العامّة تحمل في شكلها الخارجي رسالة ومضمونا، ورحت أحثّ الخطى نحو المبنى مقلّبا مدلول التسمية على وجوه عدّة. لماذا وقع الاختيار على اسم "مدينة الثقافة"؟ هل هو مجرّد نسج على منوال "مدينة العلوم" و"المدينة الرياضية" و"المدينة الجامعية" و"المدينة الصحية"؟ موضة من مخاطرها أن يتحنّط الاسم ويتحوّل إلى تعبير أجوف يسيء إلى المنشأة أكثر ممّا يخدمها. إنّ إطلاق اسم مدينة يطرح على صاحب القرار تحدّيا بأن يجعل منها فعلا مدينة مفتوحة تنبض بالحياة وتتوفّر على جميع المرافق والخدمات التي يتطلّبها تخصّصها. وإلاّ انقلب الأمر إلى صورة كاريكاتورية ومجلبة للسخرية. الاسم لا يعكس طموحا ولا هدفا أو نيّة وإنّما يجب أن يعكس واقعا قائم الذات.

الطريف أنّ أهلنا في الجريد يطلقون لفظة المدينة على المقبرة. ينطقونها بالميم المجرورة بلكنتهم المميّزة. يريدون من خلال هذه الاستعارة التأكيد على أنّ المقبرة ليست كناية للعدم والغياب، بل هي مأهولة بذكرى من يرقدون فيها ومؤنسة بزوّارها. ولكن إذا كان من الجائز اعتبار المقبرة مدينة فإنّه من غير المقبول أن تتحوّل المدينة إلى مقبرة. لذلك وجب الحذر مزالق هذه الصلة التي يقيمها أهلي في الجريد بين المقبرة والمدينة .

قبل أن أصل قبالة المدخل الرئيسي لمدينة الثقافة، لفت انتباهي وجود مركز للأمن، فسارعت إلى إسكات نفسي الأمّارة بالسّوء بالتّأكيد على أنّه ما من إطار أفضل من الثقافة ليتصالح البوليس مع الإنسان ويتعايشا. فهنا تكون الثقافة آمنة والبوليس مثقفا. تساءلت وأنا أصعد درجات المدخل الرّئيسي، إن كان الطبوبي قد خرج إلى الجموع المتراصة في ساحة محمّد علي وبدأ في إلقاء خطاب ناري كعادته. وتساءلت أيضا لماذا يصرخ الخطباء دائما عندما يتوجّهون إلى الجماهير؟ ما ضرورة ذلك اليوم وقد صارت هناك مضخمات صوت تبلّغ الصوت إلى أبعد مدى؟

عندما صعدت نصف الدرجات وتسارعت دقات قلبي، تساءلت إن كان مصمّمو المدخل قد فكّروا في المثقفين والفنّانين المسنّين الذين تستضيفهم الدّار؟ كانت الساعة الإلكترونية الثبّتة أعلى المدخل تراوح بين الإعلان عن التاريخ والساعة ودرجة الحرارة. كنا يوم 4 مارس 2023، والساعة تشير إلى الثامنة صباحا، أمّا درجة الحرارة فقد استقرّت على تسع درجات مائوية. علّلت النفس بقهوة ساخنة فشجّعني ذلك على إنهاء بقية المدارج برشاقة شاب.

اعترفت في سرّي وأنا أضع حقيبة ظهري على بساط جهاز السكانار ليخترق حميميّتي بأشعته أنّ الإرهاب كسب نقاطا ضدّ الحرّية بعدما فرض علينا التطبيع مع هذا الجهاز والقبول به. لم يزعجني الجهاز بقدر ما أزعجني الحارس الذي يستخدمه وهو يسألني:

- "خويا وين قاصد ربّي؟"

- عندي شويّة وقت فاضي، قلت نعمل زيارة لمدينة الثقافة

- خويا، كلّ شيء مسكّر. مازال بكري، ما يجيوش توّا...

- ما عليش توّا نشرب قهيوة ونعمل دورة حتى لين تحلّ الفضاءات

- قهيوة؟ تعمل مزيّة كان لقيت وين يبيعوا فيها جيبلي معاك قهيوة...

كنت مصرّا على ألاّ أتركه يعكّر صفو مزاجي، فتجاهلته واستلمت حقيبتي على الطرف الآخر من البساط.

صدمني ارتفاع الأسقف وأنا أخطو أولى خطواتي في البهو. لم ألاحظ ذلك في زيارتي الأولى بسبب انشغالي بأجنحة معرض الكتاب. أعطاني ذلك انطباعا بأنّني في محطّة أرتال بباريس، خصوصا وأنّ هناك سلالم تؤدّي إلى طابق تحت أرضي جعلتني أتخيّلها تفضي إلى خطوط مترو الأنفاق. الشيء المريح أنّ الضوء يغمر المكان نتيجة الاستخدام المكثّف للفواصل البلّورية. هذا يعطي إحساسا برحابة الفضاء وانفتاحه وشفافيته.

وجدت نفسي وحيدا في ذلك الفضاء الشاسع مع عاملات التنظيف بأزيائهن الموحّدة وبعض رجال يعبرون من حين لآخر في معاطف بالية استنتجت من خلالها أنّهم على الأرجح حرّاس ليليّون انتهى دوامهم.

كنت مصرّا على البقاء إيجابيا، والقطع مع تلك السوداوية التي غرقت فيها طوال إجازتي بأرض تونس. قلت لن أغادرها هكذا. لن يفلح لا السياسيون ولا الحكّام ولا الإعلام ولا قيادة الاتحاد ولا السماسرة والتجار في جعلي أكره بلادي.

جعلتني إيجابيّتي لا أرى عيبا في المكاتب التي ظلّت مغلقة إلى ما بعد التاسعة صباحا. فاليوم سبت وللثقافة إيقاعها وأوقاتها. فمن أدراني أنّ الدّار لا تنشط إلاّ في الأماسي؟ ثمّ لعلّ فراغ الدار على هذا النحو يسمح لي بزيارتها على هواي. فأنا لست في حاجة إلى دليل ينفخ دماغي بكلام قد يكون خادعا عن أنشطة الدار. رحت أتوقّف عند كلّ باب، أقرأ اللافتة أوّلا ثمّ أتطلّع من وراء الزجاج إلى محتويات الفضاء. قاعات للخزفيات وللتصميم وللعرائس. لم أفهم إن كانت ورشات تدريب أو محلات لبيع هدايا تذكارية. البناية على شكل طائرة بجناحين طويلين من طابقين. كلّ جناح أدفع بابه يستقبلني بتيار هوائي سيبيري. الطابق السفلي من الجناح يفتح على حديقة فسيحة توزّعت فيها نخلات أكثرها مقطوع الرؤوس استئصالا لمرض يبدو أنّه دودة النمل الأحمر التي غزت نخيل شارع محمّد الخامس. حديقة يشي ارتفاعها قياسا بالمبنى وشكلها بأنّها مستوحاة من حديقة المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس. استغربت كيف أنّ مكتبة الأطفال الواقعة في الطابق السفلي لا تفضي إلى الحديقة. وبدا لي من الضروري والعاجل فتح باب يسمح بتنظيم أنشطة لروّاد المكتبة على عشب الحديقة. يمكن لهذه الحديقة أن تتحوّل إلى نقطة جذب قوي لو تمّ تحويلها إلى متحف بوتانيكي أي ما يشبه بنكا نباتيا يضمّ منتخبات من الأشجار والنباتات التي تميّز بلادنا بمختلف مناخاتها بعدما يتمّ تشكيل المناخات المناسبة لها اصطناعيا. في الجناح المقابل توجد قاعة الأوبرا وينتصب في مدخلها تمثال لعلي الرياحي الذي بدا في هيئة توحي بأنّه يستقبل زوار المسرح ويرحّب بهم فاستحسنت ذلك وارتحت له.

ارتفاع الجدران يجعل من هذه الأجنحة المفتوحة على السماء فضاءات ظليلة أغلب أوقات النهار، ما قد يخلق مناخا رطبا مناسبا أحيانا للنشاط وغير ملائم في أحيان كثيرة أخرى. ربّما كان من الأنسب التفكير في أسقف متحرّكة لأجزاء من هذه الأجنحة.

كنت في حاجة إلى قهوة ساخنة أطرد بها البرد الذي صار يؤلم مفاصلي قبل أن أستكشف مختلف الفضاءات الموزّعة في الجناحين، لكنّني اصطدمت بغياب أيّ فضاء يقدّم المشروبات أو المأكولات، فيما عدا موزّعا آليا للمشروبات لا أستسيغ منتجاته. المركز الوطني للسينما والصورة، المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، المركز الوطني للترجمة،قاعة صوفي القولي، قاعة عمر الخليفي، مكتبة محمد محفوظ، المركز الوطني لمسرح العرائس، المكتبة العمومية للأطفال، بيت الرواية، مكتبة البشير خريف، قاعة تحت السور، دار الأوبرا، مسرح الجهات، إلخ. هذا بالإضافة إلى مجموعة من الإدارات المركزية المختصة بوزارة الثقافة كإدارة الفنون التشكيلية وإدارة السينما وغيرهما ممّا سقط من ذاكرتي.

ماذا بقي للعاصمة خارج الدّار؟ شيء قليل جدّا...

قد يكون في هذا التجميع والمركزة فائدة للمبدعين والفنّانين لأنّ هذا الخيار يوفّر لهم فضاء للاحتكاك والالتقاء. ولكنّه خيار مفقّر للعاصمة وعازل للثقافة عن حياة الناس والدورة الاقتصادية، بشكل يكاد يجعل من هذه المؤسّسة ثكنة للثقافة وليس مدينة للثقافة على حد تعبير صديقي عبد السلام البغوري. والثقافة مدنية بالطبع تضيق بالتعليب والتدجين.

أعترف أن لا أحد اعترض طريقي ليمنعني من دخول فضاء أو يستفسرني عن سبب وجودي في مكان ما أو يعرض عليّ مساعدة من أيّ نوع كان. فقد تجوّلت فيها بكامل حرّيتي ووجدت الكثير من فضاءاتها مفتوحا باستثناء ما يبدو حسّاسا منها كمتحف الفن الحديث والمعاصر ودار الأوبرا والمركز الوطني للترجمة. توقفت عند لافتات كثيرة تعلن عن منشورات لمركز الترجمة وعروض موسيقية ومسرحية وزرت معرضا جميلا بقاعة صوفي القولي للفنانة هدى بن حمودة (Ode à la féminité) أنشودة للأنوثة) وتوقفت طويلا أمام معلّقات الأفلام التي تؤرّخ للسينما التونسية.

كم مرّ على تدشين المدينة من سنة؟ خمس سنوات كانت كافية لتبدأ بعض أمارات الترهّل تبدو عليها. أذكر حينها أنّ المسؤولين قالوا أنّ ما دشّن هو فقط قسط أوّل من المشروع ستلحقه أقساط أخرى.

أسمح لنفسي بالشك في مصداقية هذه التصريحات ووفاء أصحابها بها، أمام ما يمثّله الجزء المفتوح فقط من أعباء على ميزانية تصرّف وزارة الإشراف. فالصيانة والتعهد والنظافة واستهلاك الطاقة تمثّل مشكلا عويصا لن تستطيع الدّولة مواجهته ما لم تكن للمدينة مواردها الذاتية التي تتأتّى من تأجير فضاءات للعروض والتدريبات والمطاعم والمقاهي والترفيه ومن ترويج العروض الثقافية لتي تنتجها (عروض موسيقية ومسرحيات وأشرطة سينمائية، إلخ.) في الداخل والخارج.

لاشكّ أنّ لمدينة الثقافة هياكل تسيير جماعيّة على شاكلة مجلس علمي ومجلس إدارة. يهمّني كثيرا أن لا تدار مؤسّسة بهذا الحجم بطريقة بيروقراطية تقليدية ترهن مصيرها بيد موظّف سام لوحده مهما بلغت كفاءته ومؤهّلاته. أمّا من كان مثلي يريد أن يكون مديرا لها فلا شيء يمنعه من الاستمرار في حلمه وتشييد مدينته الفاضلة.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى