تين من زمن الأنبياء

ولّينا ظهورنا لحنايا صنهاجة المحاذية لمقبرة ينام موتاها في أحضان شجر اللوز... لمّا وصلنا إلى قمّة الرّبوة كانت القرية قد توارت خلف أشجار السّرو لينكشف المشهد في الجهة المقابلة على سهل أخضر لا يحدّه البصر .. ترجّلنا من السيارة وقد أصابنا الخرس... ظلّ صوت محمود درويش يصلنا من داخل السيارة محمولا على خيط ناي خافت... 
"أطلّ، كشرفة بيت، على ما أريد
أطلّ على أصدقائي وهم يحملون بريد
المساء: نبيذا وخبزا،
وبعض الرّوايات والأسطوانات...
أطلّ على نورس، وعلى شاحنات جنود
تغيّر أشجار هذا المكان."[1]
ذبنا في سحر المشهد المؤلّف من أخضر العشب وأزرق السماء وذلك الخط الأرجواني الفاصل بينهما... هناك، هناك، بعيدا في قلب البساط الأخضر المغلّف بالضباب تتراءى نقطتان بيضاء وسوداء... هما كوخ صغير أمامه شجرة تين... ومن موقعنا في أعلى الربوة يمتد باتجاه الكوخ مسلك متعرّج يبدو كخيط من دخان...... فجأة أطلق الزورباني صرخة مزّقت عذرية الفجر ليتردّد صداها في الروابي المحيطة بالمكان. ثمّ ركض عاريا كعنقاء نهضت من قبر في المسلك المتعرّج باتجاه الكوخ... فاضت عيناي بدمع غزير... أمّا حبيبته فسربلها السهوم كراهبة بوذية تصلّي...   
"لم أمت بعد حبّا
ولكنّ أمّا ترى نظرات ابنها
في القرنفل تخشى على المزهرية من جرحها،
ثمّ تبكي لتبعد حادثة
 قبل أن تصل الحادثة
ثمّ تبكي لترجعني من طريق المصائد
حيّا لأحيا هنا"
لمّا عاد الزورباني من هناك كانت بهرة الشمس قد ثقبت السماء ومحت ذلك الخيط الأرجواني... استوى أمامنا طيفا أسود في ضوء الشمس الذي يجهر البصر. ثم مدّ لنا يديه لاهثا ومتمتما: "هذا تين من زمن الأنبياء"... لكنّ يدا أخرى امتدّت من خلفنا جعلتنا نصحو على صوت غليظ: "ما شاء الله، ما شاء الله، تفضّلوا كولوه بحذانا في المركز الكرموس".
"ما الذي تطلبه يا سيّدي القاضي
من العابر بين العابرين ؟
في بلاد يطلب الجلاّد فيها
من ضحاياه مديح الأوسمة !
[…]
آيّها القاضي السّجين
 إنّ طيّاريك عادوا سالمين
والسّماء انكسرت في لغتي الأولى –
وهذا شأني الشخصي – كي يرجع
موتانا إلينا سالمين !"
في السيارة كنت ممزّقا بين اليقين بأنّنا لم نرتكب جرما نؤاخذ عليه وبين التوجّس ممّا يمكن أن يلفّق ضدّنا. ثمّ حسمت المسألة بالتخمين أنّ ما حصل قد حصل، وليكن ما يكون. وبقدر ما كنت واثقا من صلابة حبيبته، كنت متخوّفا مّما قد يؤتيه الزورباني من استفزازات تجاه أعوان الدورية... وبالفعل، فحال مرور السيارة أمام مستشفى الرازي للأمراض العقلية، صاح بالعون “ها قد وصلنا أنزلنا من فضلك“. دست على ساقه ليتماسك لكنّه قهقه عاليا وأنشد:
" لا تعتذر عما فعلت  […]
ها هي ذكرياتك كلها مرئية  […]
"
هل هذا هو؟" اختلف الشهود […]
لم يجيبوني. […]
والتفتوا إلى أمي لتشهد
أنني هو.. فاستعدت للغناء على
طريقتها: أنا الأم التي ولدته
لكن الرياح هي التي ربته
قلت لآخري: لا تعتذر إلا لأمك!!! "
وجاء جواب رئيس الدورية في ما يشبه الهذيان: "ختمت يا بن عروس، سبيطار مهبّلة وزادو بحذاه كلية... لا تعتذر عمّا لم تفعله. خذ تينك وارحل أيّها الدّرويش... تبّا لهذه المدينة التي لا يسلم من الجنون فيها حتى أساتذتها!!!"


[1]  مختارات شعرية من مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدا"  لمحمود درويش

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى