شاماكو والصوت

لا وجود للصّمت المطلق، لأنّ الكون مسكون بذبذبات ليست سوى تردّدات لأصوات قديمة قدم الكون ذاته... فالصوت لا يذوب ولا يفنى وإنّما يتفتّت إلى جزيئات أثناء اختراقه للفضاء وللزمان فيخفت وقعه ويتحوّل إلى ذبذبات خفية منتشرة في الجوّ لا تسمع بالأذن المجرّدة. فما لا نسمعه نحن تسمعه الحيتان ذات الحاسة السمعية المتطوّرة جدّا أو تلتقطه أجهزة الرّادار. عند سقوط صفيحة معدنية مثلا من أعلى سطح، تتناسب القعقعة التي تحدثها طردا مع نوعية المكان (الفضاء) الذي تسقط فيه. فالفضاء المفتوح يسمح للذبذبات (الصدى) أن تسافر عبر الهواء، بينما الفضاء المغلق يسجن الذبذبات بين الجدران التي إمّا أن تمتصّها فترتجّ (الصوت يتحوّل إلى طاقة) أو أن تعكسها فترتدّ لتصطدم بمثيلاتها من الذبذبات التي تعكسها الجدران الأخرى محدثة قعقعة أقوى.
إنّ الأهمّية العلمية للصوت لم تعد خافية. حيث يستفاد منه في مجال التردّدات الإذاعية والرّادار وعلوم الزلازل والاتصالات الهاتفية والمخابرات العسكرية وتفجير السدود، الخ. ولكنّ الصّوت كذلك هو المادّة الأولية التي يشتغل بها الموسيقي. فالوحدات الصوتية (الدرجات) هي حروفه التي يكتب بها الألحان، تماما كما هي الألوان عند الرسام أو الحروف والكلمات عند الكاتب.
في ثمانينات القرن الماضي، كان طلبة المعهد العالي للموسيقى يشاكسون زميلا لهم شهر "عربونيكس" بإلقاء قطعة نقدية وراءه فيحدّد الدرجة الصوتية التي تحدثها من فرط فهمه للموسيقى والمال في ذات الوقت. أمّا صديقي رضا الشمك، فقد سبّبت له حاسّته الصوتية المتطوّرة عديد المشاكل...
من كراماته الصوتية أن يكون جالسا في سدّة حانة الرّكن الضيقة والضاجة ويسمع بالتفصيل نقاشا ثنائيا يدور بين شخصين في الطابق الأرضي ولعلّه يكون في أثناء ذلك بصدد كتابة نص موسيقي مجرّد في ذهنه. نجد مثل هذه الطاقات الحسّية الخارقة، أو الكرامات الحسّية، في مجال الحواس الأخرى كما هو حال "جون بابتيست غرونوي" بطل رواية العطر لباتريك سوسكيند الذي يفكّك مكوّنات العطر من مجرّد شمّه أو مشاهير المتذوّقين الذين يتعرّفون على مكوّنات الزيوت والنبيذ ويحدّدون نسبها الكمّية.
لكنّ صديقي الشمك لم يصل إلى هذا المستوى من القدرة على الفرز بين الأصوات والدرجات بقدرة قادر... إنّها ملكة قابلة للتطوير بالاشتغال عليها وتدريبها... فهو ما كان ليصفع صديقنا فوزي تلك الصفعة المدوية عندما حشر صوته على طريق فم شفيق الذي كان يدندن أحد الألحان في أذنه، لو كانت حاسّة الفرز الصوتي مكتملة لديه يومها. ولأنّ فوزي أدرك فداحة خطئه وقدّر وجع الشمك قبل الصفع وبعده فقد غفر له تلك الحركة.
سألته مرّة عن السرّ في تحمّله ضجيج الحانة وقدرته على دندنة لحن أو كتابته، وهو الذي يصاب بالشلل عن العزف أمام أقلّ وشوشة أو حفيف داخل قاعة عرض، فأعادني إلى نقطة انطلاق هذا النص... قال" لا وجود للصّمت المطلق، لذلك لا فائدة من طلب المستحيل. صرت أستبطن الغلاف الصوتي الذي أوجد فيه وأدمجه في ما أكتبه بحيث يصير مكوّنا مندمجا في موسيقاي."
صديقي الشمك، أكرّر عليك سؤالا كنت طرحته عليك ذات مرّة في رسالة بريدية: "ماذا لو وضعنا لكلّ درجة صوتية مرادفا لونيا، وترجمنا الصوتي إلى مرئي، خصوصا وأنّه بإمكاننا اللعب على الداكن والفاتح (الضوء) لترجمة الخفض والرّفع في الدرجات الصوتية؟ ألا يسمح لنا ذلك بتخليص الصوت من شوائبه؟ هذا فضلا عن إيصال الموسيقى (كبنية مجردة) إلى الصمّ؟"
تحياتي على ما ياتي يا شاماكو يا معلّم.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى