عن شارع بورقيبة


شارع بورقيبة أو "لافيني" شارع عريق ذو رمزية عالية تفسّر إلى حد كبير التجاذبات المتعلقة به اليوم.... في التاسع من أفريل 1938 شهد هذا الشارع مظاهرة أمام مقر إقامة المقيم العام الفرنسي آنذاك (سفارة فرنسا اليوم). وفي الثالث من جانفي 1984، سقط شهيد الخبزة الفاضل ساسي أمام نزل الهناء الدولي. وفي 14 جانفي 2011 احتضن هذا الشارع مظاهرة "Dégage" التي رحّلت بن علي...
كان لي طالب يعمل ضابط بوليس في شارع بورقيبة، وكان يصر كلّما التقينا على دعوتي لاحتساء قهوة معه، ورغم ما كان يتملّكني من حرج في الظهور إلى جانبه، إلاّ أنّني كنت أستجيب لدعوته امتنانا مني لما ألمسه لديه من تقدير لشخصي وتعاطفا مع رغبته الواضحة في كسر عزلته وإقناعي بأنّ عون البوليس ليس شيطانا... كان هذا الطالب يؤكّد لي في كلّ مرّة أنّ شارع بورقيبة بالنسبة لوزارة الداخلية في نظام بن علي خط أحمر ومنطقة محرّمة على التظاهر السياسي، فهو "واجهة البلاد".... لذلك سأظلّ أتساءل حول السرّ وراء سهولة دخول المتظاهرين إليه صبيحة الرابع عشر من جانفي 2011 ... كان الجدار الأمني الذي اعترض مقدمة المظاهرة القادمة من ساحة محمّد علي في مستوى تمثال ابن خلدون، جدارا هشا ورخوا لم يبد مقاومة ذات بال ونحن نحاول اختراقه...
واليوم، ارتفعت القيمة الرّمزية لهذا الشارع... صارت المظاهرات بلا طعم ما لم تمرّ أمام الداخلية والمسرح البلدي وسفارة فرنسا وتمثال ابن خلدون... وقد كان هذا الشارع بعد 14 جانفي شاهدا على مسيرات عديدة عالية الرمزية منها مسيرة النساء الديمقراطيات ومسيرة "ديقاج" لسفير فرنسا الذي أهان الصحفيين التونسيين ومسيرة الذكرى الأولى للثورة التي احتل في فجرها أنصار النهضة مدرجات المسرح البلدي رغم مبادرة المسرحيين بالاحتجاج على عتباته الليلة البارحة عند اختتام أيام قرطاج المسرحية... ثم جاءت مسيرة عشرين مارس وما خيّم عليها من ظلال حادثة إنزال العلم بكلية منوبة.... وبعدها جاءت تظاهرة اليوم العالمي للمسرح التي تزامنت مع تظاهرة نصرة اعتماد الشريعة في الدستور التي صارت تعرف ب"غزوة المنقالة".... هذا دون أن ننسى حلقات النقاش التي تنعقد بشكل تلقائي في أرجائه... باختصار، صار شارع بورقيبة "أغورا" (Agora) العاصمة والبلاد عامة يمثل في نظر الكثيرين محرارا  وبوصلة دالة على وجهة البلاد السياسية والإيديولوجية... وهو ما يفسّر احتداد الصراع من أجل السيطرة عليه...
هذا الشارع هو كتاب تاريخ مفتوح يعج بالرموز:
  •  تمثال ابن خلدون من الجهة الغربية (وقبله كان هناك في ساحة باب البحر تمثال تبشيري مسيحي للكاردينال لافيجيري)،
  • الساعة الصدئة المنتصبة كالخازوق على أنقاض الساعة المقصلة والتي أرادها بن علي أداة لفسخ تمثال بورقيبة، ذاك التمثال الذي انتصب في نفس مكان تمثال جول فيري منظّر الاستعمار الفرنسي،
  • وزارة الداخلية الجاثمة بقتامة مبناها وبرمزيتها المزدوجة كعلامة لهيبة الدولة بما تعنيه من احتكار للعنف المشروع وكشاهد على تصالح التونسيين مع شرطتهم يوم 14 جانفي ما دامت لم تطلق النار عليهم عندما حاصروها،
  • المسرح البلدي المكنّى بعلبة الحلوى la bonbonnière كهرم يكثف إشعاع تونس الفني والثقافي في محيطها العربي والإفريقي والمغاربي، هذا الخاتم الثمين الذي يرصّع إصبع تونس والذي صمد أمام هجمة البترودولار الكويتي الذي كان ينوي هدمه عندما اشترى بناية البالماريوم في نهاية الثمانينات. صمد بفضل هبّة مشهودة للمسرحيين والسينمائيين بمساندة المثقّفين.
  • الكنيسة وسفارة فرنسا المتقابلتان في ضيافة ابن خلدون.
  • باب البحر وما يلخصه من حد (غير) فاصل بين البلاد العربي والبلاد الأوروبية.
  • المقاهي المتناثرة على الأرصفة والنزل الشامخة وقاعات السينما.
  • سكّان باب البحر الأوفياء من الأشجار والعصافير.
"الحاصيلو ملاّ شارع بورقيبة.... حكاية تدوّخ في كل شبر منها رمز"... ولو أنّ المشارقة من العرب يصدمون، بقصر هذا الشارع بالقياس لشهرته الواسعة (على رأي الصديق حليم المسعودي)... ولهم الحق، فأين شارعنا من شوارع المدن والعواصم المتوسطية إن شمالا أو جنوبا ؟... أين الموسيقيون والرسّامون والبهلوانيون والدراويش ؟؟ أين الحياة الليلية في هذا الشارع؟  شارعنا الرئيس تنقصه البهجة والاحتفالية والحمام والثقافة والفن.

يروى أنّ بورقيبة كان يحلم بتحويل شارع بورقيبة إلى شانزيليزيه تونس، وذلك بهدم نهجي القصبة وجامع الزيتونة ليشقّ على أنقاض السوقين المهدومين امتدادا لشارع بورقيبة يجعل طرفيه محطة ال"تي. جي. آم." من ناحية وربوة القصبة حيث يقع قصر البلدية اليوم من ناحية ثانية، على أن يستثني من الهدم قوس باب بحر الذي كان يراه رديفا لقوس النصر في باريس وجامع الزيتونة كمعلم حضاري لا يجوز المساس به... فهل يكون سيدي محرز سلطان المدينة وحاميها هو من هزم موسى الذي كان يريد أن يشق في أحشائها طريقا بعصا سحرية... ورغم ما في هذا الحلم من جنون وفرعونية، إلاّ أنّه يؤشّر على سعة رؤية بورقيبة بالمقارنة مع ضيق أفق خلفه الذي أقام مقصلة ثمّ عوّضها بخازوق...  
واليوم وقد تجاوزنا هذا وذاك، وفي الوقت الذي يحلم فيه البعض بالمكتبات والعروض الفرجوية والكرنفالات في شارع بورقيبة، نرى الإسلاميين بمختلف أطيافهم يعتدون على رمزية هذا الشارع ويسعون إلى تغيير طابعه بدعوى تطهيره وأسلمته. ذلك أنّه لا يتّفق مع رؤيتهم للمدينة الفاضلة... فهذا الشارع وكر للدعارة والفسق والمجون  فيه حانات كثيرة وقاعات سينما تعرض أفلام الكفر وفيه مسرح مفتوح للزنادقة وفيه تماثيل هي أنصاب تذكّر بالوثنية وفيه كنيسة وليس فيه مسجد وعلى جادّته تتبختر المتبرجات وبائعات الهوى بل والمتخنّثون وعلى أرصفة مقاهيه يجلس فتية متغرّبون يطلقون الشعور طويلة ويلبسون أقراطا ويعزفون على القيثارات بل ويقبّلون حبيباتهم على عيون الملإ. "لابدّ من تطهير هذا الشارع"، هكذا يردّد الملتحون الذين غزوا الشارع فارضين حلقات نقاش غير عفوية بالمرّة، راشقين العابرات بأوامر "أستر روحك يا فاسقة"... وشيئا فشيئا، انتهى بهم الأمر إلى الاعتداء على دور السينما وعلى مسيرة النساء الديمقراطيات وتعطيل مسيرة رجال الأمن، واستفزاز المتظاهرين في مسيرة 'اعتقني" والاتحاد العام التونسي للشغل الذي احتج على رمي أكياس القمامة أمام مقرّاته فاتّهم بالتآمر، وعلى فنّانينا المحتفلين باليوم العالمي للمسرح...  
علّل وزير الداخلية قراره بمنع التظاهر في شارع بورقيبة بما تعرّض له المسرحيون من اعتداء سلفي  عند احتفالهم باليوم العالمي للمسرح، وكذلك باحتجاج التجّار ضدّ ما تسببه المظاهرات من ركود لأعمالهم وخطر على محلاّتهم  ... على أنّ لا هذه ولا تلك من الحجتين تصمد أمام التحليل... فبإمكان الوزارة تجنّب منح ترخيصي تظاهر لطرفين في نفس اليوم والمكان. كما لا يعقل أن يحتجّ أصحاب المحلاّت وأغلبها مقاه ضدّ توافد المئات والآلف الذين سيطلبون بالتأكيد الماء والمشروبات ويستريحون على أرصفة مقاهيهم فيضاعفون أرباحهم. ومهما يكن من أمر، فلا شيء يعطي لوزير الداخلية الحق في منع الشارع الرّمزي لثورة الحرية والكرامة التي أطاحت بنظام بن علي عن المظاهرات...
إنّ بؤرة التوتّر الحقيقية في هذا الشارع هي مبنى وزارة الداخلية... فلماذا هذا الإصرار على إبقائها جاثمة على صدور المارّة في ذلك المكان الذي لا يناسبها ويجعلها عرضة لتطاول المتظاهرين عليها...
إنّ حماية هذا الشارع لا تمرّ بتحريم التظاهر فيه، وإنّما تقتضي اتخاذ قرارين شجاعين : أوّلهما تغيير اسمه ليصير شارع 14 جانفي وثانيهما تحويل وزارة الداخلية إلى مكان آخر (مقر وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية أو مقر دار الحزب الاشتراكي الدستوري في شارع 9 أفريل مثلا) وإحلال متحف باردو في مقرّاتها... عندها سيتصالح الشارع مع تاريخه وسيزداد بهاء وستنطلق أسارير العابرين به وستنهض السياحة الثقافية فيه بعد أن يصير لنا "لوفر" تونسي في قلب العاصمة...
جلال الرويسي
المعهد العالي للتوثيق

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى