الكتاب الإلكتروني: مرحلة جديدة أم نهاية تاريخ؟

مقدّمة
ظلّ الكتاب الإلكتروني موضوع مزايدة بين الرّافضين للاعتراف به والمتحمّسين له بوصفه في نظرهم الأفق الوحيد للكتاب والقراءة. والواقع أنّنا في حاجة إلى تناول هذا الموضوع بالتحليل الشّامل والدّراسة المعمّقة استعدادا للتطوّرات (التي قد تكون مفاجئة) وتحسّبا من الارتهان عندها إمّا لقانون المال دون سواه أو لدمار القرصنة، وهو ما حصل في مجالات أخرى من الصناعات الثقافية كالموسيقى والسينما.
كانت انطلاقة الكتاب الإلكتروني في نهاية تسعينات القرن الماضي متعثّرة، حيث لم تنجح الموجة الأولى من "آلات القراءة" في جلب انتباه نسبة كبيرة من المستعملين. وفي الوقت الذي اعتبر معارضو هذه التّكنولوجيا الأمر مجرّد موضة عابرة كغيرها من "الشّطحات التّكنولوجية" في عالم المعلومات والاتّصال، هاهو الكتاب الإلكتروني يعود من جديد مستفيدا من قدرته الفائقة على التطوّر والتكيّف. وها هو يؤثّث الأجنحة الكبرى في معارض الكتاب عبر العالم. ويكاد لا يخلو صالون للكتاب من ندوة علمية حول "الكتاب الإلكتروني" و"القراءة الرقمية" و"القراءة الاجتماعية" و"قراءات الغد". ومن ناحية ثانية، فالتّنافس على أشدّه بين المؤسّسات العالميّة الكبرى الناشطة في تكنولوجيا المعلومات والاتّصال على غرار "مايكروسوفت" و"صوني" و"آبل" و"آمازون"، حيث نراها تتسابق في التّجديد والتكتّل مع كبار النّاشرين والموزّعين.
ولم يعد السّؤال المطروح اليوم متعلّقا بما إذا كان للكتاب الإلكتروني مكان ومستقبل، فقد أجابت تطوّرات الواقع على هذا السؤال. وإنّما تتمحور الإشكاليّات المطروحة راهنا حول فهم آليات القراءة والاستيعاب وانعكاس ذلك على آليات الكتابة والتأليف. وعن هذه الإشكاليات، تتفرّع قائمة طويلة من الأسئلة المتداخلة والمتشعّبة ذات الطبيعة التكنولوجية والاقتصادية والقانونية والعرفانية cognitives.
1.       جدل حول المصطلح: عمّ نتحدّث تحديدا؟
راج استخدام مصطلح "الكتاب الإلكتروني" الذي يحيل لدى عامّة النّاس على الوعاء أكثر من المضمون، فيما ظلّ استخدام مصطلح "الكتاب الرّقمي" الذي تتركّز دلالته على المضمون ثانويا. وقد يكون السبب في ذلك تجاريا لأنّ خلق سوق واسعة لهذا المنتوج الجديد يقتضي التركيز على الجانب المبهر فيه. وباعتبار الرقمنة كتقنية قد غدت شيئا مألوفا في عديد المجالات، فقد فرضت تسمية "الكتاب الإلكتروني" نفسها، واعتمدت للدّلالة في نفس الوقت على تلك اللوحة الإلكترونية بحجم كتاب من القطع المتوسّط وعلى ما تسمح شاشتها بتصفّحه من محتوى رقمي مخزّن فيها.
ولئن كان هذا التعبير الفرنسي "le livre électronique" ينطوي على مفارقة من حيث أنّه يطلق صفة لامادية ومجرّدة (électronique) على شيء مادي وملموس، هو livre المشتق من اللفظة اللاتينية Liber ومعناها قشرة جذع الشجرة التي كان القدامى يكتبون عليها، فإنّ التعبير العربي لا يطرح هذه المفارقة لأنّ لفظة كتاب تعني في نفس الوقت الوعاء والمضمون. فعبارة "الكتاب المقدّس" تحيل على كلام الله ولا على السفر الذي يتضمّنه، وقولنا "لفلان ثلاثة كتب غير مطبوعة" يتعلّق بالمضامين لأنّ الوعاء لم يولد بعد، الخ.
وفي جانب آخر، تبقى تسمية هذا المنتج التكنولوجي الجديد بالكتاب قاصرة على كشف دلالته كاملة باعتباره منفتحا على الصّوت والفيديو. أفلا يكون هذا المنتج التكنولوجي الجديد في النهاية مجرّد تقليعة جديدة في عالم مصنّفات الملتميديا؟
وتبقى المفارقة الأكبر تلك المتعلقة بمحاكاة الكتاب الإلكتروني لنظيره الورقي على مستوى تصميمه وإخراجه الفني كاعتماد تقطيع النص إلى أقسام، ففقرات لها هوامش، ثم فهارس الخ. فهل تفسّر المحافظة على تسمية الكتاب وعلى كثير من خصائصه الشكلية بالحرص على إسباغ شيء من الوجاهة المعرفيّة على الكتاب الإلكتروني وبالرّغبة في تخليصه من صورة اللعبة الإلكترونية gadget التي التصقت به؟ 
2.       تكنولوجيا الكتاب الإلكتروني
عرف الكتاب الإلكتروني عدّة تطوّرات قبل أن يصل إلى شكله الذي هو عليه اليوم. و تكمن نقاط قوته في قدرته اللافتة على التّطوّر والتجدّد، حيث شهد إضافات مستمرّة سمحت له بتحسين نجاعته والتكيّف مع شتّى الاستخدامات. فقد كان الجيل الأوّل من القارئات الإلكترونية الذي ظهر في نهاية التسعينات من القرن الماضي، كبير الحجم وذا شاشات باهتة الضوء ممّا يضعف أداءها في ضوء النهار. ولكنّ البحوث سمحت بتحسين جودة الحبر الإلكتروني باعتماد الألوان وبتصميم قارئات جدّ متطوّرة في حجم كتاب الجيب، تؤمّن عرضا مريحا على الشاشة وتسمح بالتنقّل والتصفّح بواسطة اللمس وتمتاز بخفّة الوزن وبسعة خزن تصل إلى مائتي عنوانا وباستقلالية بطارية تناهز الشهرين. كما توصّل الباحثون إلى تصميم قارئات إلكترونية لغير المبصرين تعمل بنظام براي[1]. وقد ساهم كلّ هذا في إعطاء دفع قوي لسوق القارئات الإلكترونية إلى حدود سنة 2011. على أنّ سوق القارئات الإلكترونية عادت إلى التراجع من جديد منذ بداية 2012، بسبب مزاحمة اللوحات المتعدّدة الوظائف (عرض أشرطة فيديو، ألعاب فيديو، كاميرا فيديو، قراءة النصوص، وهي إلى ذلك موصولة بالأنترنيت، الخ.) حيث صارت القراءة مجرّد وظيفة مغمورة لا تقوى على منافسة إغراءات الوظائف الأخرى. (انظر الرسم أدناه) 
 أوجه استخدام اللوحات المتعدّدة الوظائف ومقارنة بين سوق القارئات الإلكترونية وسوق اللوحات المتعدّدة الوظائف[2]
وفي فرنسا، يصرّ الناشرون على مواصلة التعاون مع مصنّعي القارئات الإلكترونية ودعمهم رغم انحصار سوقها، لأنّهم يستهدفون فئة القرّاء النّهمين حيث اتّضح أنّ معدّل قراءاتهم سنويا من الكتب الإلكترونية يبلغ 25 كتابا وهو ضعف ما يقرؤونه من الكتب الورقية المطبوعة.[3] واليوم، بعدما وصل الشكل إلى مستوى مقبول من النجاعة الوظيفية والجمالية، يتركّز التنافس على تطوير طرق تزويد الحرفاء بالإصدارات الجديدة. ويشكّل شحن آلات القراءة بالاعتماد على الشبكات، وما يطرحه هذا الخيار من تحديات الكلفة والثمن وتأمين المادّة ضدّ القرصنة، أبرز محاور التنافس والتسابق. وكمثال على ذلك، نذكر التعاون القائم بين مصنّع قارئ "كندل" ومؤسسة أمازون لبيع الكتب. ويقضي هذا التعاون بتزويد مالكي قارئ "كندل" بمحتويات رقمية عبر شبكة هاتفية وذلك وفق قالب رقمي مغلق يحصر الاستعمال في دائرة مالكي قارئ "كندل" أو مشتركي شبكة المزوّد الهاتفي. وفي المقابل اختار "صوني" مصنّع القارئ "ريدر" الانفتاح على كل الأجهزة والقوالب الرّقمية في إطار شراكة مع الموزّع الفرنسي الشهير "فناك" FNAC والناشر "هاشات" Hachette وذلك منذ 2008. وهو ما دفع مؤسسة أمازون إلى التفكير في مراجعة خيارها بالانغلاق داخل قالب رقمي حصري.
3.            اقتصاد الكتاب الإلكتروني  والإشكاليات القانونية
لا أحد ينكر وجود حرب تكنولوجية يخوضها الناشرون ومصمّمو تكنولوجيات النشر الإلكتروني، ولكنّ مدار هذه الحرب اقتصادي بالأساس مع ما يستتبع ذلك من إشكالات قانونية. ولا جدال في كون اقتصاديات القراءة الرّقمية مرتبطة بصناعة تكنولوجيات المعلومات والاتصال، حتى صرنا نتحدّث عن "الصناعات القرائية" كقطاع صناعي قائم الذّات له اقتصادياته الخاصة. [4]
وتبقى قضايا حماية حقوق النشر وثمن البيع للعموم من أهمّ الإشكاليات التي يطرحها الكتاب الإلكتروني في ظل سوق لم تتبيّن بعد آفاق تطوّرها بوضوح. فقد طوّرت دور نشر الكتب والموسوعات والدّوريات مواقع واب تنشر من خلالها لا فقط نظائر رقمية لمنشوراتها الورقية، بل صيغا رقمية مبتكرة ومزيدة للمطبوعات يتم تطويرها وإثراؤها بالاستفادة من الإمكانيات التعبيرية والاتصالية الواسعة للملتميديا. ومن نافل القول التذكير بالرّهان الاقتصادي المحرّك لهذه المبادرات. وفي جانب آخر، هناك خزّان التراث الفكري الذي انتقل إلى الملك العام بفعل التقادم وسقوط الحقوق المادية لأصحابه. وهو يمثّل احتياطيا هامّا على ذمّة النّاشرين خصوصا وأنّه يوفّر هامش ربح إضافي للناشر باعتباره لا يخضع لحقوق التأليف المادّية. وعن حجم السوق، تفيد أرقام نقابة الناشرين بفرنسا أنّ حجم مبيعات الكتاب الإلكتروني لم يتجاوز سنة 2009 الواحد بالمائة من رقم معاملات قطاع النشر في هذا البلد.[5] وتتراوح التوقعات بشأن تطوّر هذا المؤشّر بين أن يتضاعف مرّتين إلى قرابة العشر مرّات في أفق سنة 2015، حيث تتنبّأ التوقّعات الأكثر تفاؤلا بحجم مبيعات قدره 206 مليون أورو مقابل 21 مليونا سنة 2009. [6]
فما هي في ظلّ هذا الواقع كلفة الكتاب الإلكتروني؟ وما هي مكوّناتها مقارنة مع كلفة الكتاب الورقي المطبوع؟ وكيف تعالج إشكاليات الملكية الأدبية والفكرية وحقوق النّشر في واقع النّشر الإلكتروني ؟ وكيف السّبيل إلى حماية هذه الحقوق من القرصنة والاستخدامات الفوضوية التي لا تبدو كذلك لأجيال اليوم التّي فتحت عيونها في عالم مؤثّث بهذه التّكنولوجيا، والتي ترى في الوصول الحرّ والفوريّ والمجانيّ إلى المعلومات أمرا بديهيا وحقّا "طبيعيا" لا يقبل التضييق؟ وما هي الأدوار الجديدة لمختلف المتدخّلين في سلسلة إنتاج الكتاب في ظلّ هذا الواقع الجديد الذّي تغيّرت فيه المعطيات بفعل التّشبيك والاتّصال عن بعد؟ ومن هم أصحاب الحقوق الفكرية والمادية؟  
لقد شهدت سلسلة إنتاج الكتاب تغيّرات عميقة بالمقارنة مع النشر التقليدي، حيث اختفى بعض المتدخّلين وخصوصا في مستوى التوزيع وظهر متدخّلون جدد كمهندس الملتميديا والموثّق فيما أعيد توزيع بعض الأدوار الأخرى. من ذلك مثلا أنّ التأليف صار مشتركا بين كاتب النّص ومهندس الملتميديا الذي يرسم بالبرمجيات ويركّب الصوت والصورة وكذلك الموثّق الذي يجمّع الصور والتّسجيلات الصّوتية ويتحرّى في الرّوابط ومصداقيتها، بل وحتّى القارئ الذي ينتخب فقرات ومقاطع أثناء مساره القرائي فيؤلّف كتابا على مقاسه مختلفا عن الذي يشكّله قارئ آخر. ويرى ناشرو الكتاب الإلكتروني أنّ هذه التطوّرات التي أملتها طبيعة المنتوج أدّت إلى سوء فهم لمهنتهم التي صارت أقرب إلى الإنتاج السينمائي، ويلحّون على أهمّية دورهم في مستوى إخراج النص الرقمي وتأمين التناسق بين شكله ومضمونه. ويضرب ممثّل مؤسّسة نوميريكليفر Numériklivres مثالا بكيفية انتقاء المؤلّفين الذّين تتعامل معهم مؤسّسته مبيّنا أنّ مؤسّسته تتعامل كثيرا مع كتّاب المدوّنات وجمهورهم حيث تنطلق منهم للوصول إلى جمهور أوسع. [7]
واللافت للنظر أنّ هذه التغيّرات في سلسلة الإنتاج لم تؤثّر بشكل ملحوظ على ثمن بيع الكتاب الإلكتروني للعموم. فرغم الاقتصاد الكبير المسجّل في تكلفة إنتاجه، نكاد لا نلمس لذلك انعكاسا يذكر على سعر بيعه للقارئ. فكلفة التوزيع التي تمثّل في منظومة النشر "التقليدي" أكثر من 50% من ثمن البيع، تنزل إلى أقلّ من 30% في حالة الكتاب الإلكتروني، بينما تنخفض تكاليف الصناعة (تصميم وإخراج وورق وطباعة) من 14% إلى 4 % (تصميم رقمي وأنفوغرافيا). لكنّ القارئ لم يغنم شيئا من هذا الانخفاض في كلفة الإنتاج، حيث وقعت إعادة توزيع الفائض بين النّاشرين والمؤلّفين. وبذلك ارتفعت عائدات الناشر من 27.5% في الكتاب الورقي إلى 39% في الكتاب الإلكتروني[8]. وإذا علمنا أنّ الناشر يتولّى بنفسه في أغلب الحالات عملية التوزيع انطلاقا من موقع الواب الخاص بدار النّشر باعتبار انتفاء الحاجة إلى مستودعات التخزين والتوزيع وإلى وسائل النقل الثقيلة، فإنّ نصيب النّاشر يقفز إلى قرابة ال70 بالمائة من رقم معاملات الكتاب بعد إضافة عائدات التوزيع للناشر. وبالنّسبة لحقوق التأليف، فقد قفزت من 7.5% في حالة الكتاب الورقي إلى 20% في حالة الكتاب الإلكتروني.
أمّا بالنسبة للقارئ، فلا يتجاوز انخفاض ثمن الكتاب الإلكتروني بالمقارنة مع الكتاب الورقي الثلاثة أوروات في أفضل الحالات، يقابله ارتفاع ناتج عن كلفة جهاز القراءة الذي يقدّر معدّل سعره بمائة أورو. وهذا يعني إضافة معدّل أوروين إلى سعر الكتاب إذا ما اعتمدنا سنتين كمدّة استعمال لجهاز القراءة يطالع خلالها صاحب الجهاز 50 كتابا إلكترونيا بمعدّل 25 كتابا في السنة الواحدة، ممّا يحكم على الانخفاض النهائي بالتبخّر ويجعله بلا معنى.
جدول مقارن بين مكوّنات كلفة الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني في فرنسا[9]
عنصر الكلفة
الكتاب الورقي
الكتاب الإلكتروني
سعر موحّد ب 9.99 أورو[10]
سعر موحّد ب 12.99 أورو[11]
التوزيع
41.50 %
28.4  %
27 %
حقوق التأليف
7.50 %
19  %
20 %
تكاليف صناعة الكتاب
14.22 %
3.8  %
4 %
دعاية وإشهار
3.50 %
5.7 %
5 %
أداء على القيمة المضافة TVA
0.94 %
5  %
5 %
عائدات الناشر
27.50 %
37.9  %
39 %
وفي انتظار التوصّل إلى ضبط دقيق لما يجب أن يكون عليه سعر الكتاب الإلكتروني المتاح عبر الأنترنيت، يورد هارفي غايمار (2009) نتائج دراسة حول رأي القارئ الفرنسي في سعر الكتاب الإلكتروني، وسقف الثّمن الذي عبّر هذا القارئ عن استعداده لدفعه[12]، حيث يتّضح أنّ مستخدم الأنترنيت الفرنسي مستعد لدفع ستة أورو ثمنا لرواية رقمية يكون سعرها الورقي 14 أورو وأن يشتري بخمسة أورو سلسلة مصوّرة تباع بتسعة أورو في شكلها المطبوع. وهو ما يعني رغبة في تخفيض ثمن بيع الكتاب تناهز الخمسين بالمائة عند الانتقال من الورقي إلى الرّقمي.[13] ويوصي هارفي غايمار بنسبة تخفيض قدرها 30% يعتبرها ملائمة للجميع وضرورية لإقلاع السوق. لكنّ نقابة النّاشرين بفرنسا تعترض بشدّة على مقترحه، معتبرة أنّه من الاعتباط المنافي لكلّ منطق علمي تحديد فارق مهما كانت قيمته بين سعر بيع الكتاب الورقي من ناحية والرّقمي من ناحية ثانية. إذ يختلف السعر حسب الأجناس والأغراض والأحجام، كما أنّ الشكل الرّقمي يتيح صيغا جديدة للبيع غير مألوفة مع الكتاب الورقي كالبيع بالباقة (باقة كتب) أو بالقسم أو بالصّفحة أو الكراء أو الاشتراك وكذلك بيع النص الرّقمي مع إمكانية الطباعة أو بدونها. وتخلص نقابة الناشرين إلى أنّ السّوق ستجد توازنها آليا من خلال ديناميكية العرض والطلب.[14] والثابت في خضمّ هذا الجدل المحتدم أنّ بقاء ثمن الكتاب الإلكتروني مرتفعا يعود أساسا إلى ارتفاع ثمن مضمونه، وذلك على خلاف ما يعتقده أغلب الناس.
أمّا عن القرصنة، فهناك بالطّبع حلول تكنولوجية لحماية النصوص الرّقمية وهي عبارة عن أقفال إلكترونية للتصرّف في الحقوق الرّقمية تعرف بDRM[15]. لكنّ الإفراط في استعمالها يؤدّي إلى الحدّ من التوافقية l'interopérabilité بين الأجهزة والبرمجيات ويعزل بعضها عن بعض ممّا يشكّل تعارضا جوهريا مع أحد المبادئ التي قام على أساسها مجتمع المعلومات والاتصال، وهو حرّية تدفّق المعلومات والبيانات، كما يوشك أن يدفع مستخدمي الإنترنيت والبيانات الرّقمية إلى ممارسة القرصنة بأكثر كثافة، ويمكن الاتعاظ في هذا السياق بما حصل في مجال الموسيقى.
ولا يزال التفكير جاريا من أجل التوصّل إلى معادلة اقتصادية تلعب فيها الدّولة دورا رياديا وترعاها حتّى تمكّن الجميع من الوصول الحرّ والدائم إلى المضامين الفكرية والثقافية مع ضمان مكافأة مجزية وعادلة لأصحاب الحقوق الفكرية والمادّية. وقد كان الخبير برونو باتينو قدّم لوزيرة الثقافية الفرنسية في 2008 تقرير مهمّة كلّف بها حول موضوع الكتاب الرقمي ضمّنه اقتراحات في هذا الخصوص من بينها:
·        التصدّي للقرصنة وتأمين شروط تبلور عرض يحترم القانون ويشدّ القرّاء من خلال تطوير توافقية الأجهزة والتكنولوجيات وهيكلة الميتاداتا ورقمنة المحتوى
·        إشراك أهل الميدان في التفكير حول حقوق التأليف بشكل جماعي
·        الوعي بالدّور المركزي لأصحاب الحقوق في تحديد الأسعار
·        اعتماد سياسة نشيطة في الموضوع مع مؤسّسات الاتحاد الأوروبي
استخدامات الكتاب الإلكتروني وتأثيراته العرفانية
منذ أطلق مارشال ماك لوهان قولته الشهيرة "الوعاء هو الخطاب"[16] سنة 1964، عمّ الاتّفاق على أنّ الوعاء أهمّ من المضمون في مجال الاتصال، ذلك أنّ الوعاء يحدّد طبيعة المعلومات التي يحتويها وطريقة تداولها ومستوى استيعابها ودرجة تصديقها... وصارت هذه المقولة قاعدة نظرية لدراسة تاريخ الكتابة والكتاب والقراءة ولدراسة استخدامات الكتاب الإلكتروني لدى الفئات الاجتماعية والعمرية، ودرجة تأثير الكتاب الإلكتروني في علاقة هذه الفئات بالمعرفة وفي ممارساتها الثّقافية أفرادا ومجموعات (آليات الكتابة والقراءة والاتصال والتفاعل).
لقد عرف تاريخ الكتابة والكتاب عدّة ثورات ناتجة عن تطوّر المحامل وتكنولوجيات الاتصال المكتوب.  فقبل ثّورة الشبكات والمعلومات الرّقمية التي تعيشها اليوم، شهدت البشرية ثورة الكتابة أي ثورة الانتقال من المشافهة إلى التدوين. وبعد ذلك، شكّل كلّ انتقال إلى وعاء جديد ثورة في هذا المجال. ومن أهمّ هذه الثورات[17]:
·     الانتقال من اللفافة le rouleau إلى كتاب الصفحات المجمّعة في كراريس le Codex، حيث صار بالإمكان الكتابة على وجهي الورقة والتحكّم في الكتاب والتنقّل داخله بيسر، إذ تحرّر جسد القارئ من أسر اللفافة التي تتطلّب قراءتها أن يكون الشخص واقفا وممسكا اللفافة عموديا بكلتي يديه، وصار بإمكان الناّسخ الجمع بين عمليّتي القراءة والنّسخ ومن ثمّة الاستغناء عن الشّخص الذي يملي عليه (يقرأ) بصوت عال.
·     ثورة الطباعة التي كانت وراء دمقرطة الكتاب وإيصاله إلى العامّة بعدما ظلّ قرونا طويلة حكرا على رجال الدّين والسلاطين. وقد عزّزت كثرة النسخ من العنوان الواحد واستقلال كل قارئ بنسخته انتشار القراءة الفردية الصامتة. 
·     ثورة الشاشة الرّقميّة التي فتحت أحضانها لصفحات الكتاب المطبوع الجامدة، فأحدثت انقلابا جذريا في أساليب عرض المعلومة وهيكلتها والنفاذ إليها. فالفرق شاسع بين أن نقرأ على الورقة وأن نقرأ على الشاشة الضوئية. ورغم أنّه ما من أحد يمكنه التنبّؤ القطعي بسيناريوهات المستقبل التكنولوجي، إلاّ أنّ مجرّد التذكير بأنّ نصف الكتب المطبوعة اليوم ستكون مرقمنة في ظرف عشرة سنين وأنّه سيتمّ رقمنة جميع المطبوعات في أفق الثلاثين سنة القادمة يمكن أن يعطينا صورة تقريبية عن الوجهة التي نتقدّم صوبها.
وتؤكّد بعض الدراسات الحديثة التي اهتمّت بجمهور الكتاب الإلكتروني في فرنسا أنّ 5% فقط من الفرنسيين جرّبوا قراءة الكتب الإلكترونية، وأنّ الأغلبية الساحقة لهؤلاء ال5% (95%) فعلت ذلك على شاشة حاسوب، بينما قرأ ال5% المتبقّون (أي 0.25% من مجموع الفرنسيين) ما قرؤوه على آلة قراءة إلكترونية.[18] كما بيّنت دراسات أخرى أنّ الكتاب الإلكتروني أدخل تحوّلات على السلوك القرائي ولكنّه لم يغيّر نسبة القرّاء النهمين والمنتظمين بالمقارنة مع نسبة قرّاء الصّدفة. و لكنّ الدراسات سجّلت أنّ معدّل الكتب المطالعة سنويا لدى فئة القرّاء النّهمين يتضاعف بالمقارنة مع ما يقرؤونه من الكتب الورقية.[19] كما خلصت العديد من البحوث التي ركّزت اهتمامها على السّلوك القرائي إلى أنّ الكتاب الإلكتروني يثير، ككلّ نص رقمي فائق، إشكاليات عميقة تتعلّق بضعف التركيز وتشعّب المسارات وقلّة الصّبر لدى القرّاء وخصوصا النّاشئة. وهذا معناه أنّ السلوك القرائي لمستعمل الكتاب الإلكتروني يتوخّى مسارات ذهنية تقطع مع الخطّية ويتستبدلها بمسارات سمتها الرّفرفة والانتقائية zapping. وهذا لا يساعد على الاستيعاب الجيّد للنّص المقروء والسيطرة على معانيه. والحقيقة أنّ قراءة النصوص الإلكترونية هي في غالبيتها محاكاة لطريقة اشتغال الذهن البشري العادي وضرب من الانسياق وراء السهولة بدل أن تكون رياضة ذهنية في إطار مسارات نسقية مركّبة.
ويعتقد المهتمّون بقضايا القراءة الرّقمية بأنّ مستعمل الكتاب الإلكتروني سيجد توازنه القرائي عندما يألف هذه المنجزات التكنولوجية ويكفّ عن التعاطي معها بوصفها لعبا مسلّية ليؤسّس معها علاقة وظيفية. فالقراءة الانتقائية ليست سلبية في كل الحالات، ولنا في الكتاب التقني الذي يتلاءم مع هذا الضرب من القراءة خير مثال.
من هنا، نتبيّن أنّ أهمّ الإشكاليات التي يثيرها استعمال الكتاب الإلكتروني ذات طابع عرفاني congnitif، أي مرتبطة إلى حدّ بعيد بالكتابة والقراءة. وسيبقى انتشار الكتاب الإلكتروني رهين هاتين العمليّتين العقليتين بالأساس وبمدى استجابته إلى حاجة كلّ من المؤلّف والقارئ في مجال التعبير والاتصال. وبمعنى آخر يجب ألاّ يتحوّل الاستثمار المعرفي الذي تتطلّبه هذه الوسائط الجديدة إلى عائق أمام المؤلّف. كما يجب إيجاد حل لإحساس القارئ بعدم الإشباع المعرفي باعتبار الكتاب الإلكتروني نصا متشابكا ومفتوحا على ما لانهاية له من النصوص. وإلاّ، فقد ينتهي الأمر بالكتاب الإلكتروني إلى فقدان بريقه. وفي المقابل، إذا تعمّم استعمال الكتاب الإلكتروني، حتّى وإن كان ذلك في دائرة نشاط محدّد كالتعليم مثلا، فإنّ تأثير ذلك على عمليات نقل المعرفة واكتسابها سيكون كبيرا. لكنّ كثيرا من المختصّين في علوم التربية يحذّرون من خطر أن تتخلّى الإنسانية عن مناهج التلقين لتقع في مناهج التسطيح. أي أن تهرب من ثقافة الأدمغة المحشوّة لتسقط في ثقافة الأدمغة الفارغة، حجّتهم في خشيتهم انتشار الكسل الذهني والتعويل على الذاكرة الاصطناعية الخارجية بدلا عن الذاكرة الطبيعية الداخلية (الإنسانية). فالخيال في النهاية لا يتأسّس من فراغ وإنّما هو استثمار وإعادة توظيف لمعارف مخزّنة في الدماغ.
أمّا عن آفاق الكتاب الإلكتروني في المدى المنظور، فيرجّح المهتمّون بالمسألة (هارفي غايمار، 2009 ونيكولا فيكتور 2013) أن يعرف الكتاب الإلكتروني انتشارا واسعا في المجالات المعرفية التالية، معتمدين في تنبّئهم على مؤشّرات مستمدّة من واقع بعض البلدان:
·        الكتاب العلمي والتقني كالطب وعلوم الحياة عموما
·        الكتاب المدرسي
·        الموسوعات والقواميس
·        السلاسل المصوّرة
·        الأدب الإيروسي
·        الكتاب العملي (الأدلّة السياحية، كتب الطبخ)


[1] - وفي مجال القراءة الإلكترونية بشكل عام، تمّ ابتكار ورق إلكتروني يحاكي ورق الجرائد وهو عبارة عن لفافة إلكترونية بحجم صفحة الجريدة تذكّر بلفافة ورق البردي وتسمح بقراءة محتوى الجريدة صفحة تلو الأخرى.
[3] - نفس المرجع
[4]. - Cf. GIFFARD, Alain. – « Lecture numérique et culture écrite », in :http://skhole.fr/lecture-num%C3%A9rique-et-culture-%C3%A9crite-par-alain-giffard [site consulté le 14/10/2010]
[5]. - Cf. « La question délicate du prix », In: http://editionnumerique.wordpress.com/2010/05/27/la-question-delicate-du-prix/, (Consultée le 8/4/2013)
[6]. -VICTOR, Nicolas. - "Comment travaillent les éditeurs numériques ? Quels sont leurs secrets pour choisir un texte et le distribuer ?", In : http://www.europe1.fr/Prix-Relay-des-voyageurs/Articles/Editeurs-numeriques-ils-devoilent-les-secrets-du-metier-1462865/
[7]. -VICTOR, Nicolas. - "Comment travaillent les éditeurs numériques ? Quels sont leurs secrets pour choisir un texte et le distribuer ?", In : http://www.europe1.fr/Prix-Relay-des-voyageurs/Articles/Editeurs-numeriques-ils-devoilent-les-secrets-du-metier-1462865/ (consulté le 2/4/2013)
[8]. - BIENVAULT, Hervé. – «Le livre numérique: coûts et profits», In : http://aldus2006.typepad.fr/mon_weblog/2010/03/le-livre-num%C3%A9rique-co%C3%BBts-et-profits.html, rédigé le é
[9]. - Idem
[10] - وهو السعر الذي فرضه الموزّع العملاق أمازون
[11] - وهو السعر الذي تطالب به نقابة الناشرين في فرنسا
[12]- القابلية أو الاستعداد للدّفع أو ما يعبّر عنه بالفرنسية le consentement à payer هي مقاربة علمية تعتمد لدراسة السلوكات الاستهلاكية
[13]. - Cf. GAYMARD, Hervé. – Op. Cit., p. 104
[14]. - Cf. « La question délicate du prix », In: http://editionnumerique.wordpress.com/2010/05/27/la-question-delicate-du-prix/, (Consultée le 8/4/2013)
[15]. -  Digital Rights Management, terme anglais pour Gestion des droits numériques, la protection technique des droits d’auteur et de reproduction dans le domaine numérique ;
[16] - The medium is the message (Le message c’est le médium : « une info à la télé, c’est d’abord de la télé et accessoirement de l’information »)
[17] - Cf. CHARTIER, Roger. - "Du Codex à l'Écran : les trajectoires de l'écrit",  In : Solaris, Revue électronique,  http://gabriel.gallezot.free.fr/Solaris/d01/1chartier.html, consulté le 4avril 2013
[18] - SCHMUTZ, Bruno. – « Les publics du livre numérique », Enquête Ipsos MediaCT, mars 2010, In : http://editionnumerique.files.wordpress.com/2010/05/cnl-salon-du-livre-bs-10-03.pdf, Consulté le 30 mars 2013
[19] - Cf. CHARTIER, Roger. – Op. Cit.


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى