شيخ البلد

هذا النّص مهدى إلى سي المطّوسي صاحب محلاّت الطابق السفلي بعمارتنا، سي المطّوسي هذا الذي يرفض منذ أشهر إصلاح العطب بماسورة دورة المياه التي فاضت وأغرقت العمارة والحي في "العسل".   
لم أتعوّد الإقامة في نفس البيت أكثر من سنتين. ولأّنّ امتلاك منزل أمر مستحيل على الموظّف في بلادنا، فقد اتّخذت من شعار "ما أقصر العمر حتّى نضيعه في الادّخار" عقيدة سكنية لي، وزيّنت لنفسي حياة الترحال بعدما أقنعتها بأنّ عدم الاستقرار إنّما هو امتياز فاز به غير المالكين لبيوت، مادام عدم الملكية يتيح للسّاكن على وجه الكراء تغيير سكنه ومحيطه مجدّدا من خلال ذلك حياته وعلاقاته، بينما المالك سجين مسكنه. ألم يسمّي الأوّلون المسكن "قبر الحياة"؟. 
لكنّ ذلك المشهد الرّائق من نافذة غرفتي بالطابق الثالث جعلني أتشبّث بالمكوث في تلك الشقّّة لأكثر من عشر سنوات لم أشعر بمرورها. فقد جعلت من وقفتي وراء بلّور النّافذة طقسا يوميا ثابتا أستهلّ به يومي. هناك أترشّف قهوتي على مهل، وأنا أطلّ على حديقة قصر "قبّة النّحاس" المنسوب إلى العائلة الحسينية، مطوّحا بنظري في أطراف حديقته الشاسعة والخلاّبة بأزهارها ونباتاتها المصطفة في تناسق هندسي مبهر، حتّى صرت أعرف كلّ شجرة أو شجيرة ولا يفوتني أيّ تغيير يطرأ عليها مهما كان طفيفا.
لكنّ ضيفا ثقيلا اكتسح عليّ فضائي وصار يقاسمني الشقّة مجبرا إيّاي على التّفكير الجدّي في مغادرتها. إنّه النّحل الذي وجد في أزهار الحديقة غذاء وفيرا وفي ذلك الثقب بجدار العمارة مدخلا لتركيز خليّة آمنة في جوف الجدار لا تطالها الأيدي. ولأنّه لم يكن من اليسير عليّ الوصول إلى ذلك الثقب لسدّه، فقد اكتفيت بالامتناع عن فتح النافذة لاتّقاء لسعات النّحل. 
وحصل ما لم يكن في الحسبان ذات يوم لمّا هممت بتنظيف بقعة نديّة على الجدار ينزّ منها سائل لزج. إذ لم أكد أحكّ المكان بمنديل مبلّل حتّى أحدثت في الجدار المتآكل ثقبا بحجم كفّ اليد، تدفّق منه عسل أصفر صاف.من يومها تغيّرت حياتي بشكل لست أدري إن كان إيجابيّه يغلب على سلبيّه أم العكس. فقد ثبّتّ قطعة خفّاف كبيرة في ذلك الثقب اتّخذت منها سدّادا أستخدمه للتحكّم في مقادير العسل التي أستخرجها من الجدار. ولم يستقرّ رأيي على اسم لذلك الثقب العسلي. فهو بالنسبة لي تارة موزّع عسل كموزّع الأوراق المالية بجدار البنك، وطورا بئر عسل كبئر الماء في منازل المدينة العتيقة، وحينا مضخة عسل كمضخّة البنزين في محطّة توزيع المحروقات. لكنّ الثابت أنّ غرفتي حرمت من الهواء وصارت كالغرفة الممنوعة في خرافات جدّتي. والثابت أيضا أنّني صرت أسبح في بركة من العسل الذي غدا من ثوابت غذائي، حتّى صرت أحيانا أكتفي به طعاما وحيدا لعدّة أيام. وحتّم عليّ العيش في العسل أن أطوّر ثقافتي العسليّة بعلميّها وشعبيّها، فكوّنت مكتبة متخصّصة تجمع بين الكتب العلمية والتراثية كنت أطالعها وأنا ماسك بكأس من العسل أغمس فيه سبّابتي وألعقها أثناء المطالعة. وهكذا عرفت أنّ العسل مفيد في معالجة أمراض المفاصل والأمراض الجلدية والبواسير وتساقط الشعر والرّبو والنزلة والاكتئاب والكولسترول وتقوية القدرة الجنسية بل ولحالات من السكّري إذا ما استعمل بمقادير معتدلة. وكانت وفرة العسل أكثر من أن أستنفذه في الإهداء إلى القريبين منّي، فصرت أبيع منه كمّيات تكفي لتغطية معلوم الكراء. 
ظللت لفترة أعتقد أنّني المستفيد الوحيد من عسل الجدار غير متخيّل أنّه قد تسرّب عبر تجاويف الآجر إلى الطوابق الأخرى حتّى تحوّلت العمارة بطوابقها الخمس إلى شمع عملاق يضع فيه النحل عسله وغدت الجدران من الجهات الأربع دبقة من فرط ما تضمّخت عسلا صار ينزّ من مسامّ الحيطان مغريا الأطفال بلعقها كما تفعل القطط بالحليب. هكذا افتضح أمر جميع سكّان العمارة الذين كانوا يتظاهرون بالتشكّي من كثرة النّحل الذي حوّل حياتهم إلى جحيم ويكتمون أمر استفادتهم من العسل. وكان لابدّ من أن نصارح بعضنا ونفكّر سويا في حلّ جماعي لحماية العمارة من الانهيار وتقاسم غنيمة قصر "قبّة النحاس" بما يرضي الجميع. لكنّ أمر القسمة لم يكن سهلا بالمرّة. فقد طالب عم المنجي صاحب شقة الطابق الرّابع حيث يقع ثقب الجدار الخارجي بضعف ما سيفوز به كلّ منّا بدعوى أنّه صاحب الفضل علينا، وهدّد بغلق الثقب إذا لم يقبل شرطه. لكنّنا لم نعبأ بتهديداته وتحدّيناه بأنّنا سنفتح ثقبا أخرى على مستوى بقية الطوابق. وفي المقابل أقنعت السكّان أنّه علينا الاستجابة لشروط العمّ إبراهيم جنّان حديقة قصر "قبّة النحاس" الذي هدّد بتجفيف المنابع من خلال تخريب الحديقة وتهجير النّحل إذا حرمناه من نصيبه. أمّا سي المطّوسي صاحب محلاّت الطابق الأرضي المغلقة، من أين تفيض ماسورة الصرف الصحّي التي تسدّ الأنفاس بروائحها الكريهة، فقد عبّر عن استعداده بإصلاح الماسورة واقترح تركيز شبكة قنوات موازية لشبكة مياه الشرب تستغلّ لتجميع العسل في محلاّت الطابق الأرضي التي التزم بصيانتها وطلاء جدرانها الدّاخلية بمادّة عازلة ليجعل منها خزّانات تتوفّر على شروط الحفظ الصحّي للأغذية. فسبحان مغيّر الأحوال من الخراء إلى العسل. 
شاع أمر عمارتنا العسلية بين النّاس فزارتنا القنوات التلفزية لإنجاز تحقيقات صحفية مصوّرة عن عمارة العسل. وصار حيّنا يعرف ب"حارة العسل" وسكّانّه يسمّون "النحل"، كما أدرجت وزارة السياحة عمارتنا في المسلك السياحي لتونس الكبرى. وازدهرت في حينا عديد المهن المرتبطة بالعسل ففتحت محلاّت تبيع كتب الأعشاب الطبية والتداوي بالعسل، وأخرى للمعالجة بلسعات النحل وأخرى لبيع السندويتشات بالعسل. أمّا أنا فقد أصبح زملائي ينادونني "شيخ البلد" نسبة إلى أجود أصناف تبغ النارجيلة المسمّى عندنا بالمعسّل.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى