تسونامي

أسبوع واحد كان كافيا لتنشأ لي مع روّاد ذلك المقهى وشائج غير معلنة. مقهى يقع في تلّة غابية خارج ضوضاء المدينة "متعاليا" عن البحر وزحمته، مكتفيا منه بإطلالة على خيط أزرق يشعّ بلمعات فضية تحلّي الأخضر الغابي المسيطر على المكان. مبنى بسيط من الخشب البُنِّيّ ذو سقف قرمودي قصير يظلّل رواقا غير فسيح ولكنّه يفتح على مساحة كبيرة يغطّيها عشب مشذّب بعناية تناثرت فوقه أشجار زيتون قديم. يحيط بالفضاء سياجٌ من أشجار السرو والصنوبر التي تنشر في الجو هواء يبهج النفس ويفتح العقل. تحت كل زيتونة نبتت طاولة خشبية كأنّما هي امتداد لأغصان الزيتونة المعمّرة. يتوزّع الحرفاء على الطّاولات في هدوء يجعل الناظر إليهم يحسبهم من أهل الفكر والفن... حتّى النّوادل يتحرّكون في هدوء ويتكلّمون بأصوات خفيضة... صوت واحد يخترق تلك السكينة التي تغلّف المكان دون أن يزعج في الظّاهر أحدا، هو صوت ضابط الشرطة الذي يقع المقهى في نطاق خدمته. يسلّم حال وصوله على الجميع بصوت عال كأنّما يريد أن يوقظهم من خدرهم الجميل. ويحرص على مصافحة البعض والتوقّف عند طاولاتهم متلصّصا في صفاقة على صفحات جرائدهم وشاشات حواسيبهم. ولا ينسى أن يرسل إشارات إلى الذين لم يسعفه بعد الظرف حتى يتعرّف عليهم مباشرة، إشارات يفهمهم من خلالها أنّه يعلم عنهم كلّ شيء وأنّه هنا لحمايتهم. ولكن من الواضح أنّ نبرة صوته وحركاته المتهافتة تكشف مركّبات نقصه تجاه من يعتبرهم مثقّفين.
أصل إلى المقهى كل صباح عند الثامنة فأجد طاولتي غير مشغولة، كأنّها محجوزة باسمي. تبادرني صاحبة المقهــى، تلك العجوز الفرنسية المسرفة في التدخين، بابتسامة خاطفة وتعود لتغطس في صفحات روايتها الضخمة. أجتازها بزيتونتين وقبل أن أجلس إلى مكاني يكون النادل قد وصل بالقهوة وقارورة الماء والكرواسّون. يسعدني أنّ القهوة دون سكّر وبلا رغوة تماما كما أريدها. هذا يعفيني من تلك المفاوضات التّافهة التي تنغّص عليّ صفاء ذهني الصباحي الذي أحرص على حمايته من الشوائب. وهو إلى ذلك من الأسباب الرّئيسية التي جعلتني أفضّل هذا المقهى. أسوّي موقع الكرسي من الطاولة دون خشية من إحداث قرقعة تزعج الآخرين فيزيد ذلك الاطمئنان من سعادتي. أتحرّك محاذرا على فكرتي أن تنقلب من دماغي فتسيل على سطح الطّاولة أو العشب الطّري. أتأمّل المشهد دون نظّارات، أتملّى حقيقة الألوان، أقيس منسوب الضوء. ألقي نظرة على عناوين الجريدة ليس لرغبة منّي في القراءة، ولكنّه طقس قديم يرافق قهوة الصباح.

يقع هذا المقهى على مشارف قرية ساحلية سحرية وسياحية لم تشارك في إسقاط الدكتاتور لأنّها لم تكن يوما معنيّة به ولا بنظامه. فقد أهملها ذلك الحاكم الفاسد وأقصاها من برامجه التنموية كما لو كانت تابعة لإيطاليا التي لا تفصلها عنها سوى رفرفات فراشة هشّة. وقد بادلت هذه المدينة الدكتاتور تجاهلا بتجاهل، فلم يكن أهلها يتحمّسون للانخراط في حزبه ولا للترشّح لمناصبه. كانت قرية متعفّفة في كبرياء، قانعة بما حبتها به الطبيعة من منتوج سمكي ومزارع ومواشي وبحر وصناعات تقليدية وسياحة بيئية. كانت مكتفية بذاتها ومستقلّة تربّى أهلها على عدم مطالبة الحاكم بشيء.
لمّا عمّت الفوضى بعد 14 جانفي، غزاها أناس لا تعرفهم لينتصبوا على كرنيشها بأكشاك تبيع السندويتشات المتعفّنة وعبابيد الذرة المشوية والمثلّجات والجلابيب واللّوز والحمّص والماء ومستلزمات السباحة، وبعضهم يفرضون أنفسهم حرّاسا لمواقف السيارات فارضين إتاوات على كلّ من يرتاد شارع الكرنيش.
فقدت القرية الساحلية السحرية والسياحية الكثير من بهائها الذي تستمدّه من هدوءها ونظافتها وبساطتها. وكان أهلها يتألّمون في صمت لما حلّ بقريتهم ويلعنون الثورة والثوّار. ولكنّهم كانوا مغلوبين على أمرهم أمام قوّة ذلك الزّحف، لا يرون أفقا واضحا يخلّص قريتهم ممّا حلّ بها.
لم يكن أحد يتصوّر ما حصل عشيّة ذلك الأحد من بقايا الصيف. فمن كان يصدّق أنّ الطبيعة بإمكانها أن تحمي نفسها بنفسها عندما يعجز البشر عن ذلك؟
كانت الحركة كالمعتاد على رصيف الكرنيش الذي غصّ بالأكشاك والباعة الفوضويين حتى نزل المشاة إلى الطريق وصاروا يزاحمون السيارات معرّضين أنفسهم وأطفالهم للخطر. سمع الناس ما يشبه الرّعد قادما من جهة البحر ورأوا الأمواج ترتفع إلى مستويات غير معهودة وتهرول باتجاه الكرنيش. وبالكاد وجد غزاة الكرنيش الوقت كي يفرّوا بجلودهم، تاركين وراءهم أكشاكهم وبضاعتهم.
كانت نصف ساعة كافية لتكنس الأمواج الزّاحفة كلّ مظاهر ما بعد 14 جانفي ويبلع البحر الغاضب فقاقيع الكرنيش بما تحويه من بضائع، بل ويجتثّ الرصيف نفسه ويخلّف مكانه أخاديد غائرة في الأرض، كأنّما ليضمن عدم عودة الغزاة.
لم يحزن أهل القرية الساحلية الساحرة على ما حلّ بكرنيشهم فقد هرعوا فوق سطوح المنازل يرقبون في ابتهاج ما أتاه البحر وما عجزوا هم عنه. ولكنّ ما أحزنهم هو مشهد مجنون القرية المهتاج وهو يقدّم نفسه قربانا للبحر ويصيح "هاهاها، فسّخ وعاود من جديد"
قربة في 4 سبتمبر 2014

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى