عن الكتب

عن الكتب (1)
في ثمانينات القرن الماضي، كان الشباب في الجامعة يستدرجون الفتيات ويوقعونهنّ في شراك حبّهم بالكتب... كتب حنّا مينا ونيكوس كازانتزاكيس والطيب صالح وغابريال غارسيا ماركيز وباولو كويلهو... كانت رواية زوربا لليوناني نيكوس كازانتزاكيس العنوان الذي لا تصمد أمامه فتاة، ما إن تقرأه حتى تقابلك من الغد وكأنّك زورباها، ذلك الرجل الأميّ الذي لا مدرسة له سوى الحياة بما فيها من تجارب وتنوّع وثراء. ذلك الشيخ المحب للحياة الذي لقّن "باسيل" المثقف وصاحب المال الكثير ما لم يجده في الكتب عن الحياة وعن فن عيشها. ماإن تفتح المسكينة الرواية حتى تغرق فيها "تقلب صفحة تغرق في الأخرى" فتأتيك من الغد بعينين متورّمتين من السهاد وتجدها طرية منبهرة مخطوفة العقل وشاردة الذهن وسارحة الخيال، ويكون معناه أنّ الثمرة نضجت وصارت صالحة للقطاف... تجد الشباب يتخاطفون النسخة من صاحبها ويسجّلون أسماءهم على طوابير الانتظار ريثما يأتي دورهم لاستعارة الصنّارة... ولنفس السبب يغامر الواحد منهم بسرقة الكتب من مكتبات "بهجة المعرفة" و"الكتاب" ومن معرض تونس الدولي للكتاب ويصرف منحته الطالبية بكاملها في شراء الكتب، ويجتهد في قراءتها ويحفظ أشعار درويش وأدونيس حتى يطيح بفتاة الأحلام...
لست أدري أيّة ريح هبّت على الجامعة، لينفضّ الجميع من حول الكتاب وسحره... بدأها الطلبة الدساترة تحت ستار حفلات البيزوتاج فانساق وراءهم المائعون والمتفسّخون، وصارت الفتيات يملن لمن يهدي المارلبورو وينظّم الخرجات للعلب الليلية وانهارت أسهم زوربا الذي صار عجوزا منسيا لا يعرفه ولا يلتفت إليه ولا يقدّر قيمته أحد....

عن الكتب (2)
كان المرحوم سيدي يقدّس شيئين: نعمة ربّي والأوراق المكتوبة... ومعنى نعمة ربّي عنده هو الأكل والخبز تحديدا، كلمّا وجد قطعة منه ملقاة في الطريق يأخذها بيده وينفض عنها الغبار ويبوسها ويطبع بها جبينه قبل أن يضعها في مكان بعيد عن الأرجل، عسى أن يمر عصفور أو أي حيوان آخر فيتغذّى بها... أمّا بالنّسبة للأوراق المكتوبة كقراطيس الحمّاص أو كراريس التلاميذ الممزّقة أو صفحات الجرائد المهملة، فهي من وجهة نظره تحمل الحرف، والحروف مقدّسة، طالما أنّها تكوّن أسماء الله الحسنى... فالله بالضرورة موجود بين السطور وفي ثنايا الكلمات...
سيدي هذا كان أمّيا لا يفكّ الحرف، ولكنّه كان أكثر وعيا بقيمته من كثير من المتعلّمين


عن الكتب (3)
 في سنتي الرابعة من التعليم العالي، اجنزت بنجاح الاختبارات الكتابية والشفاهية ولكنّ حصولي على الأستاذية ظلّ رهين مناقشة رسالة ختم الدروس، وهي عبارة عن بحث أكاديمي ينجزه كل طالب تحت إشراف أستاذ مؤطّر. ولمّا كانت العائلة تحاصرني بالسؤال عمّا إذا كنت قد تخرّجت أم لا؟ كنت أجيب "من ناحية ما، يمكن القول أنّني تخرّجت، ولكن من ناحية أخرى، أنا لم أتخرّج بعد"... وكان هذا يلقي ظلالا من الشك حول صدقي ويعرّضني لسخرية صامتة أقرأها في عيون الناس... ولأنّني أعرف أنّ المرحومة لن تفهم ما معنى "رسالة ختم الدروس" ولا عبارة بحث (لأنّ البحث بالنسبة إليها من اختصاصات الشرطة)، اخترت أن أختصر لها الشرح في الصيغة التالية "عليّ أن أنجز كتابا في الاختصاص أعرضه أمام لجنة".... وكان ذلك كافيا كي تصير المرحومة تباهي بي أمام الأهل والجيران كلّما سألوها هل تخرّج ابنها أم لا قائلة "نعم لقد أنهى الدّراسة، ولكنّه مشغول بتأليف كتاب التخرّج."

عن الكتب (4)

في المهرجان السنوي لجريدة لومانيتي لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي:
الأوّل (محدّثا صديقه): "أرأيت ذلك الشخص الذي يقف مع الرّفيق عادل، كان موظّفا يشرف على مكتبة المركز الثقافي السوفياتي بتونس في ثمانينات القرن الماضي. المسكين، دمّرناه بسرقة كتب المركز... كنّا نذهب كل يوم إلى المكتبة متظاهرين بمراجعة دروسنا الجامعية وبمطالعة الكتب، ولكنّنا نغادر المكتبة ومحافظنا محشوّة بعشرات العناوين لماركس وأنغلس ولينين وغوركي وتشيخوف وتولستوي..."
ينتبه عادل إليهما ويلاحظ وشوشاتهما وإشاراتهما باتجاهه هو والموظّف السوفياتي السابق، فيتوجّه نحوهما مصافحا بحرارة: "أهلا بالأشقياء، آه لو تعلمان ماذا قال لي الرّفيق روبوكوف... كان يحدّثني كيف كانوا يتظاهرون بمراقبة قاعة المكتبة بالمركز الثقافي السوفياتي حتّى يؤجّجوا لدى الشبيبة التونسية الرّغبة في امتلاك تلك الكتب الإيديولوجية والأدبية التي كانت توزّع مجّانا في بلدان أخرى ولكنّ الشباب لا يلتفت إليها. كانوا يعيدون ملء الرفوف كلّ يوم بنسخ جديدة بعدما تتبخّر نظيراتها. وكانوا يرسلون إلى سفارتهم تقارير إحصائية عن عدد الكتب الموزّعة ولا المسروقة...."
في نفس تلك الفترة كنّا في الشتاء، نتدفّأ كلّ ليلة ببعض النسخ من الكتاب الأخضر الأنيق للقذّافي التي كان يوزّعها علينا المركز الثقافي الليبي الواقع بشارع المملكة العربية السعودية بعاصمة تونس. كنّا نتحلّق كالبدو حول كانون الحطب، ليتناول الواحد منّا نسخة من الكتاب الأخضر ويشرع يقرأ من فصوله حتى ننخرط في نوبات من الضحك. وبعد أن نشبع ضحكا من مقولات "سلطة الجماهير دون نيابة أو تمثيل" و"كل تمثيل تدجيل" والحزب هو قبيلة العصر الحديث" و"البيت لساكنه" و"المرأة أنثى تحيض والرّجل ذكر لا يحيض" يلقي القارئ بالنسخة في النّار ليؤجّجها. ثمّ لا نلبث أن يتناول شخص آخر نسخة جديدة ليفعل بها الشيء ذاته... 
عن الكتب (5)

كان لجيلنا عادات وممارسات متداولة ومعروفة في التعامل مع الكتب... بعض الحركات البسيطة ولكنّها من حيث مدلولها ترتقي إلى ما يمكن اعتباره آداب الكتاب... حركات آلية نؤتيها تجاه الكتاب كالطقوس، نروم من وراءها إثبات احترامنا للكتاب ولصاحبه.
فكما لا يجوز أن تعيد جارة لجارتها ماعونا أذاقتها فيه أكلة نادرة دون تنظيفه، فإنّه من العيب أن يعيد من يستعير كتابا لمطالعته ذلك الكتاب إلى صاحبه دون تغليفه، حتّى ولو أدّى ذلك إلى طمس غلاف الكتاب وعنوانه. المهم هو إشعار صاحب الكتاب بحرص المستعير على سلامة الكتاب... ومثلما تحرص الجارة أن لا تعيد الماعون فارغا فتضع فيه حلوى أو بسكويت، قد يتّفق أن يدسّ المستعير داخل الكتاب مقالا نقديا يتحدّث عن ذلك الكتاب أو بطاقة بريدية، أو يرفقه بكتاب آخر لردّ الجميل... وإذا صادف أن يكون الكتاب المعار ممزّقا، فمن الواجب الأخلاقي للمستعير أن يرمّم الكتاب ويعيده لصاحبه في حالة جيّدة...

عن الكتب (6) 
اندهشت زينة من فخامة "البيبليوتاك" التي نصبتها شهرزاد في قاعة جلوس بيتها الجديد. مكتبة من اللّوح البنّي الداكن الأملس اللّمّاع الرّفيع بأبواب بلّورية تقفل بالمفاتيح تظهر من وراءها أمّهات الكتب مجلّدة ومذهّبة ومصفّفة في مشهد رائق... هذا كتاب الأغاني في ستة وعشرين مجلّدا أخضر داكنا بعنوانه الممتد على ظهور مختلف الأجزاء وذاك كتاب كليلة ودمنة وبجانبه الأجزاء الأربعة من ألف ليلة وليلة بلونها الأحمر "دم غزال" (الرّوج بوردو) التي دسّت فيها شهرزاد حكايات سحرت شهريار ومن بعده الشعوب من مختلف العصور والحضارات، وفي الأسفل تاريخ الطبري يعقبه "كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"
أثنت زينة على ذوق شهرزاد في تنسيق الألوان ونوعية الخط وسألتها بدهاء عمّا تحتويه تلك المجلّدات، فضربت شهرزاد خدّها بكفّها وغمزت معترفة "يعطيك يا زينة، لا تتصوّري كم ساعدتني هذه "الأشقاف" في تجميع تفاصيل كم كنت أشقى في الوصول إليها. وانطلقت تسرد على زينة محتويات كل مجلّد: " في شقف المجلّد الأوّل من ألف ليلة وليلة "صياغة هندية فالصو بلاكي أور" من نفس النوع الذي لبسته شهرزاد بطلة ألف ليلة وليلة في مسلسل رمضان الفائت، أمّا شقف المجلّد الثاني فاتخذت منه "بوات فارماسي: أسبيجيك على بانادول على سيرو كحّة على مفاتل ذايبة على طرف قطن وداكان". وفي الشقف الثالث خبّأت "ماكياج شنوة بودورو"، وفي الرّابع جمّعت "شكّا من المفاتيح والتورنيفيسات ومناgل إلكترونيك مكسّرة وبريكيات فارغة"... وفي المجلّد الأوّل من مروج الذهب، وضعت "تصاور عرسي وطهور ولدي"، ولمّ المجلّد الثاني فاتورات الماء والضو، وفي المجلّد الثالث "كرنيات الأولاد وكشوفات أعدادهم المدرسية"، وفي المجلّد الرّابع أدسّ بعض أعداد من مجلّة "سيّدتي". ثمّ أقسمت شهرزاد لزينة أنّها تنوي تعمير بقية الأشقاف بقصص أطفال...
ردّت زينة في مكر واضح: "بصرف النظر عن مساعدتها لك في جمع كلّ هذا الشتات من الأشياء الرقيقة والتي عادة ما تكون مبعثرة في البيت، فإنّ منظر هذه المجلّدات جميل جدّا ويعطي الزائرين انطباعا جيدا عن صاحب البيت"

عن الكتب (7)

عدت في نهاية تسعينات القرن الماضي إلى تونس بعد خمس سنوات قضيتها في فرنسا للدراسة. رجعت محمّلا بما تيسّر من الكتب المطبوعة والمنسوخة والتسجيلات الموسيقية والأفلام على أقراص ليزر كانت وقتها نادرة وباهضة الثمن... وقد ساعدتني دراستي وشغلي في مجال علم المعلومات والمكتبات على ترتيب أغراضي في حاويات كرتونية مرقّمة يقابل كلّ واحدة منها قائمة جرد مفصّلة بمحتويات كل صندوق كرتوني، حتّى أنّ عون الجمارك في ميناء رادس أثنى على نظامي واعترف لي بأنّني أسهّل عليهم العمل... قارن عون الجمارك بين العناوين المثبّتة بالقائمة وبين الكتب الموجودة في الصناديق وأشّر على التطابق بينها ثمّ أفادني أنّه سيتمّ الاحتفاظ بجميع الكتب وأقراص الموسيقى والأفلام ريثما يتمّ التثبّت لدى إدارة الرقابة بوزارة الدّاخلية ممّا إذا كانت تتضمّن ممنوعات. ثمّ طلب منّي الاتصال بإدارة الرقابة حتى تمدّني بما يفيد عدم الممانعة في دخولها إلى تونس...
توجّهت بعد شهر إلى تلك الإدارة الكائنة بالطابق الثاني من عمارة قديمة إيطالية المعمار في نهج حسين بوزيان، ودخلت مكتبا عالي السقف ضعيف الإضاءة تفوح منه رائحة الرّطوبة وتتوسّطه طاولة كبيرة المقاسات عليها آلة راقنة قديمة ودفاتر ضخمة... حدّثت نفسي في سرّي أنّ هذا مكتب بوليس نموذجي بالاتحاد السوفياتي ورحت أتخيّل صوت الآلة الراقنة وهي تطقطق على الورق مفضّلا تشبيه ما تخلّفه من أصوات بتصفيق راقصة الفلامنكو ودقّات كعبها على خشبة المسرح بدلا عن وابل من الرّصاص. انتبهت على صوت عون إدارة الرقابة يعلمني في زهو ظاهر وهو يربّت على ظهر حاسوب غطّاه الغبار وخراء الذباب، كما لو كان يربّت على ظهر جواد ربح سباقا، أنّ قاعدة بيانات الوزارة كشفت بعض الكتب الممنوعة... أخفيت اضطرابي وتطلّعت إلى القائمة لأكتشف أنّها كتب دراسية لا علاقة لها بالثالوث المحرّم (الدّين والسياسة والجنس) بل كلّ ما في الأمر أنّ عناوينها تتضمّن عبارات تدعو إلى تشغيل مبدأ الحذر من نوع "سياسة النشر"  أو "النظام الوطني للمعلومات"، إلخ. أمّا كتب "Notre ami Ben Ali" و"الآيات الشيطانية" فقد دخلت دون أدنى مشكلة لأّنني كنت قد استبدلت أغلفتها بعناوين روايات لا تثير أدنى شبهة... 
حصل ذلك طبعا في زمن بدأ يزدهر فيه تراسل الكتب المرفمنة عبر الأنترنيت.

عن الكتب (8)

هذه صور أوّل قصة قرأتها في حياتي (راعية الإوز) وأوّل جائزة نلتها عن قراءتي لتلك القصّة وتلخيصها، تمثّلت في تذكرة سينما لمشاهدة أوّل شريط سينمائي
(les épérons noirs) على شاشة كبرى. دهشة تعقبها دهشة... هكذا كان سيدي مصطفى البيتاوي يزرع فينا حب القراءة والحياة.. كنّا بدفع من سيدي مصطفى كوّنا مكتبة تعاونية من أكثر من ثلاثين عنوانا اشتريناها من صندوق تعاوني يدفع له كلّ تلميذ خمسين ملّيما ويدفع له سيدي مصطفى أضعاف ذلك المبلغ... كنت أمين تلك المكتبة أدير نظام الإعارة وأسهر على تداول الكتب بين تلاميذ الفصل... وربّما لذلك السبب درست علم المكتبات والتوثيق لمّا كبرت واشتغلت أمين مكتبة عمومية سنوات طويلة... حصل هذا سنة 1972 (من ثلاث وأربعين سنة خلت)... الله يطوّل في أنفاسك يا سيدي مصطفى كانك حي ويرحمك كانك غادرتنا....

عن الكتب (9)

شيخ جليل ووقور، أناقته ملفتة ومتفرّدة من خلال جبّته القمراية أو الحرير، وبرنسه الصوفي الناعم وشاشيته القرمزية... صوته رخيم، دافئ يبعث الطمأنينة والسكينة لدى من يسمعه. عيناه برّاقتان بنظرات تنعش من تقع عليه من تحت نظّاراته اللّمّاعة وتبثّ فيه الطاقة والأمل... قصير القامة، ظريف الوجه، نحيف القوام. إمام خطيب بالمسجد الجامع وفقيه القرية الذي يستفتيه النّاس في جميع مسائل حياتهم ومعاملاتهم فلا يبخل عليهم بالإنصات والنصيحة والتنوير... يملك مكتبة تبيع الكتب والأدوات المدرسية، ولكن تبيع أيضا القصص وكتب المظالعة وخصوصا الجرائد والمجلاّت في لغات متعدّدة... عالم شاسع ومبهر بالألوان والصور والعناوين المحرّكة للخيال يختزنه ذلك الحانوت الصغير في حجمه والبسيط في شكله. مكتبة هي شبّاك نطلّ من خلاله على العالم بأسره... منارة تشعّ بالثقافة والمعرفة والأدب والفن على تلك القرية النائية التي يتلهّف شبابها وكهولها لوصول الجرائد والمجلاّت فيتلقّفونها كرغائف الخبز الساخن الخارج لتوّه من الفرن... حتّى أنّ لوثة القراءة أصابت نساء البيوت، فكان أبي يشتري لأخواتي اللواتي لم ينهين الابتدائية مجلّة سيّدتي والإذاعة والتلفزة ومن حين لآخر صحيفة أسبوعية. والحقيقة أنّ ذلك كان يمثّل عبئا ماليا ضخما على من كانت أجرته نصف الشهرية لا تتجاوز ثلاثة دينارات. إنّها لمعجزة بكل المقاييس أن تباع في قرية نائية لا يتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف ساكن ولا توجد بها معاهد ثانوية ولا جامعات، صحف "لوموند" و"لوفيغارو" ومجلاّت "جون أفريك" و"لو نوفال أوبسارفاتور" و "لكسبراس" و"لوبوان" و"باري ماتش" و"صالو لي كويان" و"الوطن العربي و"المجلّة" و"العربي" و"الأقلام"... كنت لا أمرّ أمام مكتبته دون أن أقف لأتأمّل أغلفة المجلاّت وأتهجّى عناوينها، وأبحر مع صور داليدا وجون فرانسوا وبريجيت باردو... وأرمق أبناءه الذين يساعدونه في البيع بنظرات الغيرة وأغبطهم على ما هم فيه من نعيم... كان تأثير حياته ومهنته على أبناءه واضحا جليا، فعلامات الحداثة كانت بادية عليهم، فنّانون في لباسهم وذوقهم ومهذّبون في تعاملهم مع الناس وفي سلوكهم وحركاتهم... وكانت لديّ قناعة راسخة أنّ ذلك من أثر الكتب والمجلاّت المحيطة بهم...
الآن وبعد مرور أربعين سنة أو يزيد عن ذلك الزمن، أتساءل عن السرّ في نجاح مكتبة شيخنا الجليل وفي فشل ابنه الذي كم أصرّ في عناد على مواصلة تجربة أبيه... هل هي حاجة الناس لمقاومة الفقر والبؤس التي تجعلهم يجدون لذّة في السفر بعيدا من خلال صفحات الكتب والمجلاّت؟ ربّما... ولا أريد أن أنساق وراء الفرضيات التي تفسّر الظاهرة فهي كثيرة ومتكاملة...
كان من بين الحرفاء الأوفياء لمكتبة شيخنا الجليل شابّ قريب لنا، يكبرني بسنوات كثيرة مدمن على شراء الكتب والمجلاّت رغم انقطاعه المبكّر عن الدراسة، حتى صار حالة خاصّة في العائلة الموسّعة لم يستقرّ الأقارب على رأي موحّد وثابت حوله. فمن قائل بأنّه ابن ضال وطالح، إلى من يرى فيه مثقّفا في بيئة جاهلة حكمت عليه بالغربة بين ذويه... كان هذا القريب يساعد والده في حانوته المفلس ولكنّه يصرف كلّ المداخيل في شراء المجلاّت ويصرف وقته في ملء قصاصات المسابقات الأدبية والفكرية التي تنظّمها تلك المجلاّت، حتّى تفوّق وصار يفوز باشتراكات سنوية مجانية. وهكذا كوّن مكتبة رائقة من سلاسل المجلاّت الأدبية والفنية تجعل غرفته عالما سحريا بالنسبة لي...
هذا الشيخ الجليل هو المرحوم إبراهيم بالليل رحمة اللّه عليه وعلى روحه الطّاهرة.... كل أهالي أم العرائس يعرفونه ويذكرون سيرته بإجلال ...

عن الكتب (10)

 كنّا مجموعة من التلاميذ المقيمين بمعهد قفصة، اعتدنا العودة إلى قريتنا أم العرائس نهاية كل أسبوع... ونحن نعبر مدينة المتلوي حوالي الساعة الرّابعة، كنّا نمرّ بجانب مغسلة الفسفاط الواقعة بحي الكاينة، وهناك كنت ألمح رجلا جالسا على مرتفع من الأرض وهو يمسك كتابا يطالعه. ورغم أنّني كنت أشكّ أن يكون ذلك حال الرّجل كامل أيّام الأسبوع، إلاّ أنّ تكرّر المشهد جعله عندي من ثوابت المدينة، تماما كمبنى الكنيسة أو قاعة السينما أو مغاسل الفسفاط، حتّى بدا لي ذلك القارئ أقرب إلى التمثال منه إلى البشر لحما ودما. نكون مستغرقين في اللّهو والعبث داخل الحافلة وما إن نقترب من المغسلة حتّى يصيح أحدنا "ها هو صاحبنا تحت الكالاتوسة" فنكفّ عمّا نحن فيه ونطلّ عليه باحترام ثمّ نعود إلى لهونا ونحن نصعد تلك الطريق الملتوية والوعرة. كنت أتساءل في داخلي أيّ نوع من الكتب يمكن أن يشدّ ذلك الرّجل إلى ذلك الحدّ؟ فهل تراه يقرأ روايات أو شعرا أم كتبا دينية أو تاريخية ؟؟ وكنت أتخيّله إمّا راهبا أو مجنونا...
أثّر فيّ قارئ المتلوي إلى درجة أن صرت بعد سنوات أقلّده في جلسته واستغراقه الطقوسي في القراءة. كنت أقضي العطل الجامعية في المطالعة أمام بيتنا... آخذ كتابا وأرشرش مكانا ظليلا وأفرش جلد خروف ولا أنسى المخدّة وكمية التاي المنعنعة وقارورة الماء البارد، وأنخرط في القراءة من الثالثة ظهرا حتّى يطلّ حوالي السادسة مساء صديقي بلقاسم من راس النهج وهو يبتسم متثاقلا. يصل فأمدّ له الكأس ليترشّف، ثمّ يشرب ويقرفص معلّقا "لا شكّ أنّ الجيران يعتبرونك مجنونا. فأي عاقل يجلس كلّ يوم ثلاث ساعات للقراءة في عزّ الظهيرة والشهيلي؟" أجيبه ممازحا أنّني لا أقضّي ساعاتي كلّها في القراءة، فأنا أخصّص نصف ساعة منها على الأقل أترصّد المديرة وهي عائدة من المعمل (آه يا أغنية دلّوني يا بنات المعمل دلّوني) وقد يمرّ بي عم الهادي وهو عائد من صلاة العصر فيجلس إليّ ونتجاذب أطراف الحديث... ثمّ أختم كلامي مع صديقي وأنا أجمع الأغراض لأدخلها إلى البيت "هي أيضا طقوس تبشيرية، قد تكون أجدى بكثير لأطفال الحي الصغار من ترديد المواعظ العقيمة عن فوائد المطالعة. علينا أن نعطي المثال دون مواعظ" ونمضي بعدها إلى البار ليحدّثني بلقاسم بدوره عمّا قرأه في قيلولته أو شاهده من أشرطة سينيمائية أو ليقرأ لي من أشعار درويش فتجتمع عندنا نشوتان: نشوة النبيذ ونشوة الفكر والأدب، إلى حدّ البكاء، والناس من حولنا لا يفهمون شيئا ممّا نحن فيه، فيخالوننا سكرنا كالحمقى ويغمزون النادل أن يتوقّف عن خدمتنا رأفة بنا...


 (11)عن الكتب 
اخترت بكامل وعيي أن أدرس علم المكتبات والتوثيق في مرحلتي الجامعية، رغم أنّه لم يكن تخصّصا ذا قيمة اعتبارية في المجتمع... ولكنّ تأثير كثير من المعلّمين كان أقوى من أيّ اعتبار اجتماعي. لم يكن ممكنا أن أكون إلاّ مكتبيا وموثّقا، أنا الذي كنت شاهدا على تأثير الكتب في شخص مثل علي غديرة الذي أهّله عمله كمكتبي بقريتنا إلى أن يصير معلّما للكبار في برامج محو الأمّية ومن بعد ذلك مديرا لدار الشعب فمديرا لدار الثقافة ولمهرجان القرية الثقافي، وهو في حلّه وترحاله بين الخطط والمقرّات ينقل معه كالتميمة تلك الكتب التي لا يقبل عليها أحد... كيف يمكن أن لا أكون مكتبيا وأنا الذي ولدت تقريبا مكتبيا عندما جعل منّي سي مصطفي البيتاوي مكتبيا في سنّ العاشرة وأنا في الفصل الرّابع عندما كلّفني بجمع خمسين ملّيما من كلّ تلميذ واصطحبني إلى كُتْبِيّة سي إبراهيم باللّيل لنشتري ثلاثين قصّة ونكوّن مكتبة فصل أتولّى إدارتها. لم يكن ممكنا أن لا أكون مكتبيا وأنا الذي كنت ولا أزال أحلم أن أموت ميتة الجاحظ تحت ركام من الكتب المتهاوية فوق رأسه، تلك الميتة التي كان أستاذنا منصف المحمّدي يبدع في وصفها حتّى أخال الجاحظ لم يمت وإنّما رُفِع إلى السماوات العليّة...
درست المكتبات والتوثيق والأرشيف في معهد الصحافة بتونس على أيدي أساتذة كان أغلبهم من المهنيين المباشرين في المكتبة الوطنية والمكتبات الجامعية... كان منهم المتكسّب لبائس الذي يكره الكتب ومنهم الشيخ الجليل الذي أفنى حياته في الكتب.
كان لنا درس نتلقّاه من سي محمّد عبد الجوّاد الذي أسّس وأدار أكبر مكتبات الجامعة التونسية. اختار سي محمّد عبد الجوّاد أن يعطينا ذلك الدّر س في رحاب مكتبة كلّية 9 أفريل، حيث كان علينا أن نتنقّل كلّ ثلاثاء إلى هناك لنجده في انتظارنا. وهناك كنّا نكتشف شخصا آخر غير سي محمّد عبد الجوّاد الصّارم الذي تعوّدناه في معهد الصحافة. فقد كان كالسمكة في بحرها، يحرص على ارتداء المنديل الأبيض، ويلبس حذاء مطّاطيا لا يحدث الضجيج، فيبدو كطبيب. ويتحدّث وشوشة حتى ولو كانت القاعة خالية من القرّاء، كأنّما ليحترم المؤلّفين والشخصيات المقيمة بين دفّات الكتب. يتنقّل بنا من قاعة المراجع والمصادر إلى الفهارس فمخازن الكتب وهو يمسك نفّاضة الغبار ممرّرا ريشها الناعم برفق على ظهور المجلّدات، متوقّفا بين الحين والآخر ليفتح لنا كتابا مهمّا كما يفعل بائع المجوهرات مع حرفائه، فيشرح لنا ما فيه من كنوز وبيانات ويرينا كيفية استخدامه. وقد يتّفق أن يفاجئنا بشدّ رأسه بين يديه بقوّة وهو يعض شفتيه دون أن يصرخ. فنتخيّله مصابا بالصداع ولكنّنا سرعان ما نفهم السبب لمّأ يقفز باتجاه طالب فضولي سحب كتابا من الرفوف بسبّابته التي يثبّتها بين ظهر الكتاب واالأوراق الداخلية. ثمّ يشرح لنا الطريقة الصحيحة لسحب الكتب من الرفوف مستخدما كلاّ من السبابة والإبهام ومعرّضا كفّ يده الأخرى من الأسفل كما لو كان يسحب شيئا يخاف عليه أن ينكسر. وماإن يستوي الكتاب بين يديه حتى يبدأ في مسح ظهره كما لو كان يداعب هرّة أو جروا صغيرا....


(12)عن الكتب

مرّت عليّ، لمّا كنت أعمل أمينا للمكتبة العمومية بالمرسى، فترة من التشرّد، دامت سنتين. فبعد أن فشلت تجاربي السكنية في مجموعات ثنائية وثلاثية ورباعية، قرّرت أن أظلّ في حالة تشرّد حتّى يقيّض اللّه لي سكنا فرديا مناسبا. وفي الأثناء قرّرت أن أقيم في المكتبة بين الكتب.
تعوّدت أن أفترش طبقة سميكة من الجرائد أغلّفها بخريطة بلاستيكية عملاقة للعالم فأحصل على حشيّة وثيرة. ثم أنهمك في مطالعة ما تطاله يداي من الكتب، وأنا في ذلك أتقلّب فوق الخريطة في وضعيات شتّى. فتراني أدوس أدغال أستراليا بقدمي وأداعب إفريقيا بأرنبة أنفي وألطم أوروبا بكفّي وأعطس على أمريكا وأضرط على الجزيرة العربية إلى أن يأخذني النعاس فيتداخل عندي خيال القصص مع خيال الأحلام التي تؤثّث نومي ولا يقطع حبلها إلاّ صوت المفتاح تديره المنظّفة رحمة اللّه عليها. أنتفض من جرائدي كالعنقاء من الرّماد وأبتسم لمدام ع. كالمتوسّل لها أن تحفظ سرّي، ريثما أتدبّر حالي. وكانت تلك المنظّفة أرملة أندلسية أو تركية تربّت في قصور البايات بالضاحية الشمالية، تتحدّث عن آخر بايات تونس كما لو كان والدها، ولا تذكره إلاّ بعبارة "سيدي لمين". تملك مدام ع. بيتا في أرقى أحياء سيدي بوسعيد، ولكنّني لست أدري أيّة ظروف طوّحت بها لتنتهي منظّفة متعاقدة. وكانت تنظر إليّ بعين الشفقة أنا الشريد ابن الجنوب الغارق طول الوقت بين الكتب، وتسغلّ تأخّر الموظّفات في الالتحاق بالعمل لتجلس في مكتب الاستقبال بعدما تفرغ من التنظيف وتفتح المكتبة لاستقبال القرّاء. فتبدو بوجهها الأبيض الأحمر وبنظّاراتها الشمسية الأنيقة في مقام المسؤول الأوّل عن المكتبة، حتّى أنّ أغلب القرّاء يتوجّهون إليها بأسئلتهم واستفساراتهم فتكتفي بإحالتهم إليّ، وهكذا أبدو في مقام عون تنفيذ أتلقّى منها التوجيهات. كنت أتعمّد مشاكستها أحيانا بدعوتها إلى الانصراف بعدما تلتحق بقيّة الموظّفات ولكنّها كانت تردّ بأنّها تفضّل البقاء معنا لأنّها تضجر في البيت. ولكنّ زميلة أصيلة أرياف الوسط اغتابتها عندي بعدما انزعجت من زيفها وتظاهرها بوجاهة كانت تجرح الزميلة الريفية، فأعلمتني أنّها تفضّل البقاء بالمكتبة لأنّها أوهمت جيرانها بأنّها موظّفة بالمكتبة، فأيّ موظّف هذا الذي يعود إلى بيته في التاسعة صباحا كلّ يوم؟ وكانت تستغلّ بعض أوباتها المبكّرة إلى المنزل للإيهام بأنّ ذلك راجع إلى ما تمتلكه من نفوذ يسمح لها أن تفعل ما تشاء دون رقيب...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى