كان المعلّم وسيظلّ رسولا

تنحنح فرج الطبلبي المعلّم بعدما عبّ جرعة بيرة مباشرة من القارورة وركزها أمامه ثمّ قال:
دخلت الفصل بمدرستي الريفية في ذلك اليوم الشتائي البارد وأنا أحمل سلّة أدواتي التعليمية. كانت فقرات حصّة ذلك اليوم تتكوّن من درس في الحساب ودرس في الإيقاظ العلمي وحصّة رياضة... كان الأطفال الذين يصلون تباعا يرتعدون من شدّة البرد فيأخذون أماكنهم في تلك القاعة الثلجية التي تكسّر بلّور نوافذها فوضعنا عليها ألواحا من الورق المقوّى لصدّ تيارات الهواء. كان مظهر الأطفال يدمي القلب من فرط فقرهم: ينتعلون صنادل بلاستيكية غارقة في الوحل، تطلّ منها أصابع تجمّد الدم فيها من شدّة البرد. وكانت شعورهم الجميلة مسدولة على جباههم فوق عيونهم الدّامعة لست أدري إن كان بسبب الرياح الباردة أو بسبب الألم والجوع والتعب. يقطع هؤلاء الأطفال كيلومترات كي يصلوا إلى المدرسة.



عبّ فرج جرعة ثانية من القارورة ففاضت رغوتها على فمه وملابسه وتابع بلهجته الساحلية وتلك الابتسامة ترتسم على الجانب الأيسر من فمه دون إرادة منه: كنت أستعدّ للانطلاق في العمل لمّا دخل عليّ شخص قدّم نفسه بصفته متفقّدا تربويا، فرحّبت به دون إطناب وغمزت باتجاه أطفالي أن لا يعيروا الضيف اهتماما... أبعدنا المقاعد إلى آخر القاعة حيث جلس المتفقّد، ثمّ قلت لهم مركّزا على عبارة كالعادة التي بدأت بها كلامي: كالعادة، سأرمي باتجاهكم قطع الجزر وحبّات الفجل والبرتقال والزيتون. وعليكم التباري في التقاطها، وسنرى من الفائز في النهاية، علما أنّ قيمة حبّة الفجل تساوي أربع حبّات من الزيتون، أو قطعتي جزر. بينما تساوي البرتقالة الواحدة ثلاث حبّات من الفجل، تغامز الأطفال فيما بينهم ليقسّموا الأدوار ويكوّنوا تحالفات تسمح لهم فيما بعد بتقاسم الغنيمة. وأخرجت من كيس الأدوات التعليمية الخضار والثمار ورحت ألقي بها في الهواء. نشط الجوّ وتخمّر الأطفال ودار الدّم في عروقهم وغادرهم البؤس ولمعت عيونهم وأشرقت على وجوههم تلك الابتسامات البهية وانفجرت الطاقات الكامنة فيهم. لمّا أفرغت الكيس بالكامل، دعوتهم إلى أن يحسب كلّ واحد منهم ما جمعه ويقوم بعمليات استبدال حتى يحصل على وجبة متوازنة فيها البروتين والنشويات والدهنيات. فتحوّل الفصل إلى سوق شعبية يسيطر عليها ضجيج الحساب والمقايضة... وأنا أمرّ بينهم ناصحا وممازحا. كان هناك من عوّل على تفوّقه البدني فركّز على التقاط البرتقال، وكان هناك من عوّل على ذكاءه فراح يجمع أقصى ما يمكنه من حبّات الزيتون التي كان غيره لا يوليها أية أهمّية وراح يقايضها بقطع الجزر وحبات الفجل والبرتقال ليحصل على وجبة متوازنة ويمنح الآخرين كذلك فرصة للحصول على وجبات متوازنة...
تابع فرج بعدما أفرغ بيرّته وتجشّأ حتّى دمعت عيناه ثم أشار إلى حفيّظ النادل طالبا بيرّة أخرى وهو يقضم مكعّبات القنّارية (الخرشف) المملّحة ويتنهّد: صدّقوني يا رجال يا قلوب الجمال، قام المتفقد يهمّ بمغادرة القاعة وشدّ على يدي وهو يثبّت نظره عليّ قائلا "يعطيك الصحّة سي فرج كيفاه لمّيت درس الحساب مع درس الإيقاظ العلمي مع حصّة الرياضة... سأوافيك بتقريري في الغرض بعد أسبوع" ثم غادر القاعة...
واصلت مع تلاميذي مناقشة ما توصّلوا إليه من نتائج إثر المقايضات، منبّها البعض إلى أخطاء الجمع والطرح والقسمة، ومناقشا البعض حول فوائد البرتقال ومصادر البروتينات والدهنيات، حتى انتهت الحصّة. غادرت الفصل الوحيد المكوّن للمدرسة وأركبت مجموعة التلاميذ الذين يسلكون نفس طريقي على كرّيطتي وانطلق البغل يركض ونحن نراجع أنشودة الأمس التي كانت كلماتها من تأليف معروف الرصافي... لكنّنا لم نقطع مائتي متر حتّى لاح لنا المتفقّد يشير لنا بإبهامه في حركة أوتوستوب...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى