الزَّنْدْيَانِي

على تلك الأيّام وما كان يميّزها من عمليات إرهابية يؤتيها المتشدّدون الدينيون، ما كان يجوز أن يظهر في تلك القرية الواقعة على الحدود الجبلية غريب ويقيم بين الناس فجأة، دون أن يعرفوا له لا أصلا ولا فصلا...
ليس معنى هذا أنّ أهل القرية يرفضون الغرباء بينهم. فقد تعوّدوا منذ أيّام الاستعمار أن يستقبلوا أشخاصا لا صلة لهم بالقرية. وكانوا يكرمونهم ويقدّمون لهم الإحاطة والمساعدة. هذا مدرّس فرنسي، وهذا طبيب بلغاري، وذاك باحث سويدي في علم المناخ، والآخر مهندس أمريكي. وحتّى حكاية المهندس الرّوسي الذي تبيّن فيما بعد أنّه مهرّب آثار لم تثنهم عن حسن استقبال الوافدين من الغرباء. بل وقد مرّ على القرية في بدايات الاستقلال الدعاة والمبشّرون... شرط وحيد كان لابدّ من الاستجابة له: أن يعرف النّاس من يكون ذلك الشخص، حتى لو اختلق لهم رواية كاذبة. كانوا في حاجة إلى تنشيط خيالهم ومن ثمّة الاجتهاد في نسج المبرّرات والاحتمالات ليؤثّثوا بها سمرهم.
أمّا أن يظهر بينهم واحد من الهنود الحمر بجلدته البنّية المائلة إلى حمرة الطين، وشعره الأسود الطويل المظفورعلى كتفيه، وبوشمه على الوجه، فهذا ما لم يجدوا له تفسيرا... أطلقوا عليه اسم "الزندياني" وهي في عرفهم مفرد عبارة les indiens الذين عرفوهم في أفلام رعاة البقر عند بدايات التلفزيون من ستينات القرن الماضي... ولكنّ ما أجّج فضولهم إلى أقصاه أنّ العمدة كان لمّا يسأل يهمهم بكلام ملغز لا يشفي الغليل. كاد النّاس يصدّقونه لمّا قال لهم في البداية أنّه باحث في النباتات الجبلية، خصوصا وأنّه كان يتوغّل كثيرا في الجبل ناحية الحدود الجزائرية. ويحدث أن يغيب يومين في بطن الجبل قبل أن يعود إلى الظهور. يكون غائبا ثمّ يطلع على النّاس من بيته عند الضحى... متى عاد؟؟ في الفجر؟ بالليل؟ لا أحد يعلم ذلك.
الثابت أنّ وجوده غير خاف على عيون الأمن والجيش. لكن كيف يسمحون له بالتوغّل في جبل قريب من المنطقة العسكرية المحظورة؟ هل يكون جاسوسا؟ ولكن لمصلحة من؟ جزم شاب من أنصار الجبهة الشعبية أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ خبيرا في حرب العصابات من كولومبيا أو البيرو أو غواتيمالا... "لكن، لماذا يقيم بين الناس ولا يكون مع الجيش في وضع أكثر أمانا؟" ردّ مناصر لتيّار المحبّة، قبل أن يضيف: "ربّما كان لاجئا سياسيا"...
تقفّى أثره يوما الراعي مبروك وأخوه إبراهيم، لكنّ الهندي الأحمر نجح في مراوغتهما والاختفاء. ولمّا عادا إلى القرية، كان هو قد سبقهما إليها بأكثر من ساعتين. كان يعنّ له أحيانا أن يجلس أمام بيته متربّعا ومحدّقا في قمّة الجبل، يدخّن غليونا طويلا وينفخ في قصبة طويلة ليخرج منها أنغاما عذبة كأغاني الغجر...
انتهى الأمر بكثير من الناس إلى قبول الأمر الواقع وتجنّب الخوض في الموضوع. وقد زاد هذا الموقف الأغلبي من هالة الغموض حول الهندي الأحمر. فتحوّل إلى لغز مسكوت عنه. بل وصار من يتجرّا على إثارة موضوعه كمن يقترب من النّار... والحقيقة أنّ ذلك أراح العمدة الذي لحق صورته ضرر كبير من عجزه على فكّ لغز الهندي الأحمر وإفادة الناس بجواب شاف حول حقيقته. وقد سمح هذا الوضع الجديد للعمدة بحسم الموضوع لصالحه بترديد جملة كان قد سمعها في نقاش سياسي تلفزي: "ليس كلّ ما يُعْرَفُ يمكن أن يقال. افهموا يا ناس، هناك شيء اسمه la raison d'Etat" علّق مناضل الجبهة الشعبية، وهو ابن العيّاشي صاحب الحانوت" هناك شيء اسمه la raison de tirmtek أراهن على أنّك لا تعرف عن الهندي شيئا أكثر منّا"
فما كان من العيّاشي إلاّ أن رمى ابنه بعلبة من معجون الطماطم وهو يبصق ويسبّ مهدّدا فأصاب بها العمدة على صدره بدل ابنه.
لمّا علم المعتمد بما حصل للعمدة في حانوت العيّاشي، استدعاه وشكره على شجاعته وحسّه السياسي العالي وأثنى على كفاءته في إدارة الشأن العام وقال له: "كلّ ما أستطيع تأكيده لك هو أنّ هذا الغريب في وضع قانوني لا لبس فيه. ليس كلّ ما يُعْرَفُ يمكن أن يقال. هناك شيء اسمه la raison d'Etat"
تمنّى العمدة لو كان بإمكانه أن يردّ على المعتمد بمثل كلام ابن العيّاشي...
أنهى المعتمد لقاءه بالعمدة بأن وعده برفع قضية في الثلب والاعتداء على موظّف أثناء أدائه لوظيفه، ضدّ فتى اليسار المنفلت.
.
.
.

برّى يا زمان وإيجى يا زمان
ثمّاشي بنية من دوّار الحوامدية مشات هاك العام تقرى تروازيام سيكل في كندا...
يتبع...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]