دزيرية

وضعت ما بين سنتي 1948 و1965 ستة عشر مولودا لم يعش منهم إلاّ ثلاثة، الثالث والسابع والأخير، كلّهم من الذكور. لم يستجب الرّب لدعواتها في أن يحفظ لها ولو بنتا واحدة... كان الموت يحصد مواليدها ما بين لحظة الولادة والسنة الثانية في أفضل الأحوال... لمّا جئت إلى هذا العالم، كان الموت قد فعل فعله فيها فشكّل شحصيتها وطبع سلوكها ورسم ملامح وجهها على الحالة التي وجدناها. شديدة هي، صبورة، صموتة، ميّالة إلى العزلة، كثيرة الدّعاء بالشرور على أولادها الثلاثة، ونادرا ما تبتسم... يقع منزلها الكئيب في أعلى هضبة تحيط به رمال ناعمة وتنتصب في صحنه نخلة عالية تظهر من وراء جدران الطوب الهرمة، فتبدو كمئذنة أو منارة... قليل من كان يزورها، إلاّ لحاجة ماسّة لا يقضيها غيرها. كانت معروفة بشطارتها في خلع الأضراس المريضة وشفط الدّم بالمغايث وتشليط الجبين والناظرين لتنفيس الرّأس وتخفيف الصداع. وتتحوّل إلى قابلة عند الاقتضاء.
لم يكن تجنّب النّاس لها لكره لها أو نفور منها، ولكنّه تقدير منهم لألمها المزمن. بالعكس فقد كانت محلّ تعاطف وتبجيل وإحسان تقديرا لصلابتها وصمودها. كنت أسمع عنها ولا أعرفها حتّى سنّ العاشرة، تاريخ أوّل زيارة أدّيتها إلى مسقط رأس والدي في دڨاش، تلك القرية الممتدة بالطول ما بين الهضاب الصحراوية والواحة المستلقية على تخوم شط الجريد. سلسلة من التجمّعات السكنية تمتد قرابة عشرة كيلومترات، تتخلّلها عيون الماء الساخن وتحرسها زوايا الأولياء الصالحين التي ترصّع الهضاب من حولها.
فيما ارتاح إخوتي لدار خالتي التي كانت تعيش في بحبوحة ورغـــد، وجدت نفسي مشدودا إلى عالم عمّتي في حوش الطوب الكئيب. كان إخوتي يقضون يومهم في الواحة الظليلة المنعشة حيث يملك زوج خالتي عدّة غابات (ضيعات). "يصوّبون" إلى الغابة على ظهور الحمير منذ الصباح قبل اشتداد الحرّ، فيعومون في عيون الماء الباردة ويقطفون الخوخ والتين والعنب ويمرحون فوق الأعشاب، ولا يرجعون إلاّ بعد الظهيرة محمّلين زنابيل الحمير بالحشيش وما لذّ وطاب من الثمار... أمّا أنا، فأفضّل الجلوس إلى زوج عمّتي ذي الملامح البربرية الصارمة ببشرته الفاتحة وعينيه الخضراوين المتقّدتين كعينَيْ قط في الظلام وبوجهه النحيف وأسنانه البيضاء التي لم يفقد منها واحدة وشاربه المشذّب بعناية. كان نحيفا، خفيفا، ظريفا ونظيفا يتكلّم دون أن يفي مخارج الحروف حقّها وهو لا يكفّ عن الالتفات كالمخطوف عقله أو المستشعر خطرا. يحبّ أن يتمرفق في السقيفة الظليلة المرشوشة بالماء مستندا إلى مخدّات من الصوف يشرب الشاي الأحمر الخاثر ويتابع الأخبار عبر المذياع المعلّق إلى الجدار بجانب القلّة المغلّفة بالليف، وهو يلوّح بمروحة السعف طلبا للهواء. يقال أنّه من مدمني التكروري. وكانت عمّتي لا تني تقرّعه على تكاسله وتشيح بوجهها عنه. ولكنني كنت على يقين بأنّها تحبّه.
شيء واحد كان يخيفني ويثير الرّعب لديّ في منزل عمّتي، هو الدخول إلى الكنيف، ذلك المرحاض التقليدي في جهة الجريد. مربّع من الجدران غير المسقوفة يتجاوز طولها المترين. وعلى ارتفاع نصف متر أو يزيد من الأرض، مُـــدّت أخشاب من جذوع النخيل متباعدة قدر فحجة الفرد. يقرفص الشخص فوقها ليقضي حاجته. هناك تتجمّع الفضلات وتتيبّس لفترة. ثمّ يتمّ استخراجها من فتحة في الأسفل وتعريضها للشمس فترة حتى تتحوّل إلى سماد عضوي يستخدم في تسميد النخيل. إذا كان من بداخلها رجلا يعلّق شاشيته على عصا يتجاوز طولها ارتفاع الجدران، للإعلام بأنّ المرحاض مشغول فلا يزعجه أحد بالطرق على الباب القصديري. أمّا النسوة فيمنعهنّ الحياء من الإعلان عن وجودهنّ هناك، ويكتفين بربط الباب بسلك صدئ يكاد لا يصمد إذا دُفِع الباب من الخارج.
أدفع الباب القصديري فأجد نفسي في ردهة صغيرة ربطت فيه معزتان جَرْبَاتَان دامعتا العينين. أتجاوزهما بخطوتين لأصعد ثلاث درجات أو أربع وأقرفص فوق الحفرة على الأخشاب. أطلّ تحتي فأفزع لمنظر الخراء اليابس والطريّ والدود والذباب من جميع الأحجام والألوان يغمر الفضاء بطنينه. يصيبني الدّوار وترتجف ساقاي فوق جذعي النخل، وأوشك على السقوط في الحفرة. أستقيم واقفا وأغادر دون أن أقضي حاجتي هاربا من ذلك الكابوس الذي سيطاردني أثناء نومي باللّيل وقد انضاف إلى المشهد حشد من الثعابين والعقارب التي تتحرّك في ثقوب الجدران الحجرية.
في ذلك الصّيف كانت البلدية قد ثبّتت فانوس إنارة عمومية على عمود يقع فوق سطح بيت عمّتي. فصار الأقارب يتجمّعون ليلا تحت ضوء الفانوس ويتمدّدون فوق الرمال الناعمة ليتسامروا... كان زوج عمّتي سعيدا بتلك الحظوة التي بدا لي أنّها تثير غيرة خال أمّي ذي الجاه والمال. كان خال أمّي يسهر لوحده قبالتنا في سقيفة حوشه الفسيح وهو يفترش حشية على سدّة إسمنتية ولا يتوقّف عن طلب الماء والشاي من بناته وعن التنخّم والبصاق في علبة قصديرية نصفها مملوء بالتراب. كنت أستشعر بالحدس نوعا من التنافس على الوجاهة وزعامة الحي بين زوج عمّتي الذي لم يكن يملك غير سلاطة لسانه وجمال محيّاه وبياض قلبه فهو سريع الالتهاب ويسير المسامحة، وبين خال أمّي الثري والمحبّ للقيادة والمتمسّك بطلب مشورته في كلّ ما يهمّ العائلة الموسّعة. وكنت أحسّ أنّ زوج عمّتي يبالغ في إظهار سعادته بالتفاف الناس من حوله، كأنّما ليغيض خال أمّي. يأتي كلّ شخص إلى المجلس حاملا معه ما تيسّر من الثمار أو الشرب. لبن وبطّيخ ورطب وشاي وفول سوداني وحلوى شامية ومشاميم فل وياسمين. يحلو لسيدي أن يطلب من أخته أن تخرج لهم تلك الطاولة الخشبية الدائرية ذات الأرجل الواطئة، ويسحب من جيبه صندوق حجارة الديمينو لتنطلق سهرة صاخبة يتبادل فيها اللاعبون كلاما ملغزا من نوع أقفل عليه، يمّ، نبعثه للسوق؟، فوته ما عنداش، إلخ. فيما تنزوي النساء يتسامرن ويخرّفن الأحاجي للأطفال... يصادف أن يرصد أحدهم عقربا تزحف فوق الرّمل فينبّه الحاضرين... ويحصل إن يأخذ النوم بعضهم فيسترسل في نعاسه إلى غاية أذان الفجر... كان يعنّ لعمّتي التي لا يعرف الفرح إلى نفسها سبيلا، أن تغيب داخل حوشها لفترة قبل أن تخرج على الساهرين في زيّ عامل منجمي كامل من الخوذة إلى البدلة الزرقاء إلى الحذاء المصفّح. وهي ماسكة بين يديها فانوس الكربون والمعول والرّفش... كانت تلك طريقتها في الترحيب بعائلات إخوتها الذين نزحوا من أرض الجريد للاستقرار بقرية منجمية على بعد سبعين كيلومترا طلبا للرزق وهربا من الفقر... كانت تلك أيضا طريقتها في المفاخرة بإخوتها الذين وإن تركوها وحيدة تواجه الموت، لكنّهم تيجان على رأسها ونصيروها على كلام النّاس وشفقتهم المذلّة لها...
لم أكن أستسيغ الاسم الذي يناديها به الناس جميعهم. "ديّة" كتصغير لاسمها الحقيقي دزيرية. فالديّة في عرف عمّال المنجم هي ما تدفعه شركة الفسفاط لأرملة العامل كتعويض على موته في حادث شغل. أمّا دزيرية فمعناها المرأة الجزائرية بما تعنيه من رباطة جأش وصبر وشجاعة. حرمتها الدنيا والناس من كلّ شيء، حتّى من الاسم الذي كان يليق بها. لمّا ماتت إثر غيبوبة طويلة بفعل مرض السكّري، وجدنا تحت حشيتها مئات من قراطيس الحلوى. رحم اللّه عمّتي دزيرية، كانت تلوذ بطعم السكّر هربا من مرارة حياتها...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى