حادث شغل


في البداية لم يكن غرضـــه من التهديــد بالانتحار سوى لفت الانتباه والضغط على قيادة الحزب. ولكن بعد مرور أسبوع على اعتصامه أمام مقرّ الحزب وصدور مقالات صحفية عن الموضوع وانتشار فيديوهات في شبكات التواصـــل الاجتماعي، ما عاد بإمكانه التراجع. ووجـــد نفسه متورّطا في الهروب إلى الأمام. ظـــلّ المناضل معتصما أمام مقرّ الحــزب ماسكا بيمناه سيفا، مهدّدا بغرسه في أحشائـــه، إذا تواصل رفض رئيس الحزب مقابلته، وبيسراه رفع لافتــــة كتب عليها "ضحية حادث شغل يطالب بحقّه".
والحقيقـــة أنّ تأمّلاته الدّاخلية أثناء الساعات الطويلة لاعتصامه جعلته أكثر من جاد في تهديده بالانتحار. فقد كان مغتاظا لعدم وقوف قادة الحزب إلى جانبه في محنته تلك، وهو الذي لم يتردّد يوما في الدفاع عن الحزب، حتّـــى لمّا يكون غير مقتنع بالموقف. كان يرى في الانضباط شرط نجاح الأحزاب وبقائها. كلّ واحد في مكانه ملتزم بدوره لا يتجاوزه ولا يقصّر فيه. كان يعتبر نفســـه جنديا في خدمة الحزب، عليه أن ينفّـــذ ما يقرّره حكماؤه وعقلاؤه. هي الأحزاب هكذا، بل الدنيا بأسرها. أقلّية تفكّر ومجموعة أكبر تنفّـــذ، وسواد أعظم ليس سوى قطيع يقع عليه التنفيذ. كان يرضيه أن يكون في الصف الثاني. فهو وإن لم يكن يدّعي لنفسه مواهب وقدرات تجعله يطمح إلى مراكز قيادية متقدّمـــة، إلاّ أنّه لم يكن يقبــل أن يكون ممّن يعيشون على الهامش في سلبية قاتلة ومهينة. موجود باستمرار في الصفوف الأمامية. يعطـــي بدون حساب. هل كان موظّفا لدى الحزب ؟ لا بكل تأكيد. هو يفضّل أن يعتبر نفسه مناضلا حزبيا يعيش للحزب ومن الحزب. جوكير الحزب. سائق إذا اقتضى الحال، حارس أحيانا أخرى، عضو في اللجـــان التنظيمية للتظاهرات الخطابية والاحتفاليات الجماهيرية في أغلب الأوقات. يركّب المنصّة ويفكّكها، ينقل الكراسي، يربط وصلات الكهرباء، يشغّل التجهيزات الصوتية، إلخ.
بدأ متطوّعا في الحزام الأمني لرئيس الحزب يوم عودته المظفّرة من ديار الغربة بعد الثورة. لكنّ الزعيم سرعان ما ضمّه إلى فريق حرّاسه المقرّبين. وصار يعتمد عليه أحيانا لتعويض سائقه الشخصي. وقد غنم المناضل الحزبي المخلص من ذلك الخير والبركة كما اعتاد القول مقبّلا ظهر كفّه ورافعا عينيه إلى السماء مسبّحا بحمد ربّه.
ولولا أنّه تفرّغ بالكامل للنشاط الحزبي لما قبل تلك المكافآت التي تصرفها له إدارة الحزب من حين لآخر، بغير انتظام ولا منطق واضح. كانت أحيانا مظروفات مالية متفاوتة وأحيانا أخرى دعوات لملتقيات ومهرجانات ورحلات تشمل الزوجة والأبناء. ويصادف أن تكون هدايا عينية مثل الملابس والأدوات المدرسية والأضاحي وبعض التجهيزات الإلكترونية والأثاث المستغنى عنه من المكاتب الإدارية بمقرّ الحزب. كان كذلك ينتشي بثناء رئيس الحزب عليه ويكاد يرقص جذلا لمّا يناديه باسمه أو يصافحه أمام الملأ.
لمّا صار الحزب كلّ شيء في حياته يتنفّسه من الصباح إلى المساء حصلت له تلك الحادثة التي أيقظته من طمأنينته الزائفـــة. قد يكون أساء التقديـــر لمّا استجاب لنداء شباب الحزب من أبناء قريته. ولكن هل كان بإمكانه أن يتصرّف بخلاف ذلك؟ قطعا لا... لم يكن من الممكن انتظار موافقة القيادة المركزية، لأنّ فكرة ذلك المناضل في اتحاد المعطّلين عن العمل كانت تلاقي ترحيبا واسعا لدى شباب القرية ونشطائها السياسيين. تعويض ساعة 7 نوفمبر في ساحة الجمهورية بمجسّم معدني لشعار الجمهورية، ينتصب مذكّرا المارّين من هناك بقيم الجمهورية الثلاثة ودعائمها: نظام، حرية، عدالة.
بعد تشاور قصير مع شباب الحزب بالقرية، استقرّ الرّأي على تقديم المساعدة للمناضل اليساري في تجسيد حلمه قبل أن يجدها لدى ائتلاف المجتمع المدني الذي يتصيّـــد كل المبادرات من هذا النوع.
جاء الحدّادون والبنّاؤون فطوّعوا قضبان الحديد لتشكيل الإطار الخارجي للشعار وغلّفوه بالجبس ثم تركوه يجف جانبا. في الأثناء، اشتغل فريق آخر على تركيز أساس حجري مكعب للشعار على ارتفاع متر. وبالتوازي مع ذلك، انتظمت ورشات اشتغل فيها تلاميذ المدرسة الابتدائية على تصميم السفينة والأسد والميزان، مع تحليل سيميائي مبسّط لتلك الرّموز قدّمه المعلّمون. تكفّلت النساء والفتيات بإعداد ألوان الصباغة من أصفر ذهبي وأزرق وأبيض وأسود لطلاء مكوّنات الشعار. فيما نشط شباب القرية في إبعاد المراسل الجهوي للتلفزة الوطنية عن صاحب الفكرة وتوجيه فريق التصوير نحو المناضل الحزبي بوصفه راعي المبادرة. وقد ساعدهم في ذلك انغماس صاحب الفكرة، الذي كان شعر رأسه واقفا كشوك القنفد فبدا كفنّان سريالي عالمي، في تأطير ورشات التلاميذ.
استهلّ المناضل الحزبي تصريحه لمراسل الأخبار بإشارة خاطفة إلى صاحب الفكرة دون أن يذكره بالاسم. ثمّ ركّـــز على دور الحزب في دعم كلّ المبادرات من هذا النوع. بعد ذلك شكر الداعمين الماليين للمبادرة، وخصّ بالذكر برنامجا تلفزيا مختصا في ديكورات البيوت وتزويقها وشركة لصناعة الدهن. ثمّ ختم بالتأكيد على أنّ هذا الإنجاز يحسب لجميع أبناء القرية الملتفّين حول قيم الجمهورية، قبل أن يدعو المراسل إلى تغطية حفل التدشين.
استخدمت الحبال لجعل الشعار ينتصب واقفا، ثمّ تسلّق بعض الشباب أنحاء الإطار وراحوا يثبّتون المكوّنات. سحبوا السفينة أوّلا من أسفل إلى أعلـــى فراحت ترتفع مترنّحة حتى استوت مكانها وربطوها من الخلف بواسطة براغي معدنية قوية. جاءت كفّتا الميزان متوازنتين، وقد طمأن ذلك الحاضرين على العدالة. لكنّ الأسد بدا أعرج وسيفه قصير شيئا ما. لم يكن ذلك يزعج الفنّان صاحب الفكرة الذي يبدو أنّه كان يعرف بحدسه أنّ الناس سيركّزون على توازن كفّتي الميزان فألهاهم بذلك الطعم كي يتمكّـــن من دسّ رسالة في موضع آخر من المجسّم الرّسمي. لكنّ ذلك لم يفت المناضل الحزبي الذي أصرّ على تعديل الوضع. فتسلّق عمود الميزان وجلس على أحد كفتيه ليسحب سيف الأسد من غمده قليلا إلى أعلى. لكنّ الكفّة مالت أكثر من اللازم باتجاه اليمين ليفقد المناضل توازنه. لم يكن أمامه سوى التشبّث بالسيف فجذبه نحوه وهو يتهاوى على الأرض. انغرس السيف في مؤخّرته كالخازوق وصدرت عن الحاضرين صرخة جماعية مدوية امتزج فيها الفزع بالضحك الساخر والتصفيق.
وسرعان ما انتشر فيدو ما حصل على الشبكات الاجتماعية محقّقا نسب مشاهدة قياسية عبر العالم.
وكانت تعليقات المتابعين على شبكة الفايسبوك من نوع:
• "هناك مقاولات مختصة في تنفيذ مثل هذه المشاريع. هذه ليست مسألة هوّاة متحمّسين"
• "الشعار كان لا يزال طريا. كان من المفروض انتظار أن يصلب تحت الشمس، ثمّ تركيزه فيما بعد"
• "الأساس الذي أقيم عليه الشعار يبدو رخوا ومنخفضا"
• "كان على المتتشعبط أن يستخدم سلّما جانبيا للصعود الآمن، بدل الجلوس على كفة الميزان المتأرجح"
ردّ الفنّان على هذه التعليقات بالفقرة التالية: " للفنّ مناعة وقدرة على أن ينبت كما العشبة الغضّة في الصخور الصوانية. المجسّم ناضج ومكتمل بالشكل الذي هو عليه الآن بعد سقوط المتسلّق. كفته اليمنى راجحة نحو الأسفل. أسده أعرج وبدون سيف. وسفينته معلّقة في السماء ومشدودة من الخلف."

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى