ناثر القمح

كيف انقلب حال القرية ممّا كانت عليه من جاذبية ونشاط إلى تلك الحالة من البؤس والكساد؟ أيّ لعنة تلك التي أصابت القرية فجعلتها تفقد بريقها وزوّارها حتّى خسر العشرات من سكّانها مصادر رزقهم على ذلك النحو المتلاحق والمتعاظم كلّ يوم كالوباء...
هي قرية صغيرة آمنة نبتت بين حضني تلّتين كلسيّتين متعانقتين في قلب الصحراء ترصّع إحداهما نقطة مراقبة عسكرية بناها المستعمر للسيطرة على الطرق الصحراوية من ناحيتي الجنوب والشرق، فيما تنتصب على رأس التلّة الثانية زاوية يرقد فيها ولي صالح. وما بين هاتين العلامتين تتناثر منازل القرية نزولا إلى غاية بطحاء البلدية حيث تقع عين مياه طبيعية. تولّي القرية وجهها باتجاه الشمال، مسندة ظهرها إلى حزام كثيف من أشجار الكالاتوس والدفلى يقيها زحف الرمال بفعل الرياح الهوجاء ربيعا ولسعات سموم الشتاء الباردة ولظى الشهيلي صيفا... ووراء ذلك الحزام النباتي بدأت تتشكّل كثبان من الرمال ما فتئت تعلو حتى غمرت جذوع الدفلى... هكذا تحوّل مناخ القرية مع مرور السنين إلى ما يشبه المناخ الرّطب في قلب الصحراء بفعل الأشجار والمياه والحرارة... وصارت جالبة لسكّان جدد من بدو الصحراء الرحّل.
جئنا إلى هذه الدّنيا لنجده كهلا أشيب يعيش هناك في بطحاء القرية حيث أقامت البلدية نافورة ماء تتغذّى من العين الطبيعية. ينام في المسجد باللّيل ويتفيّأ تحت جدار الكنيسة القديمة بالنهار.كان حذرا لا يطمئنّ إلى مخالطة البشر رغم ما كان يبدو على محيّاه من بشاشة ومرح. وكان يشغل وقته بنثر القمح للحمام مرّتين في اليوم عند النفورة، فترفرف تلك الطيور وتنزل من السطوح والأشجار معبّرة عن سعادتها بسمفونية من الهديل وهي تدور ملتقطة الحب ومطلقة زقّها في الساحة... وقد نشأت ألفة بين الرّجل والحمام، جعلت تلك الطيور تحط على أكتافه وعلى كفيّ يديه، ثمّ صار يكلّمها فتفهمه، كأن يطلب منها أن تنتقل من كف إلى كف فتستجيب، أو أن تطير لتحط على قبة المسجد فتفعل، إلخ.
ومع الوقت صار علامة مميّزة للقرية تباع صوره مع الحمام كبطاقات بريدية، وأصبح نقطة جذب للسياح. كلّ صباح ترسي السيارات الرباعية الدّفع المتّجهة صوب الصحراء، فينزل ركّابها ليلتقطوا لهم صورا معه إلى جانب الحمام، ثمّ يدسّون في يده بعض الدراهم فيرميها في حوض النافورة وهو يردّد مبتسما: "هذا لإطعام الحمام"
كان ينزل داخل حوض النافورة آخر جمعة من كلّ شهر مهما كان الفصل، فينظّف الحوض ممّا يكون قد علق به من أوساخ ويجمع القطع النقدية المعدنية ثمّ يستحمّ ويغادر. والناس من حوله يشجعون ويضحكون والحمام يرفرف فوق رأسه وبعض السياح يلتقطون له الصور. ويسمّى ذلك اليوم "يوم حمّام الحمام"...
عندما مات ناثر القمح، سارعت البلدية إلى انتداب عامل ليحلّ محلّه في نثر القمح وتنظيف الحوض لجلب الحمام والسياح الذين يقتات من وراء قدومهم صاحب المقهى وباعة السندويتش وباعة الهدايا وبعض التجّار الآخرين... لكنّ الحمام هجر المكان وأعرض عن قمح البلدية. والعامل أصابه الملل وأهمل حوض النافورة، والسياح كفّوا عن المرور بالقرية...

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى