شظايا حياة


(1)
كنت يومها جالسا بعد صلاة العصر في مقهى جاب اللّه أترشّف قهوتي المرّة وأنتـظــر ككلّ خميس وصول أخواتي إلى المقبرة قبالة المقهـــى. تعوّدنا منذ وفاة المرحوم قبل ثلاث سنوات، أن نزوره كل خميس بعد العصر للترحّم على روحه ومناجاته اعترافا واعتذارا وتخفّفا ممّا علق في نفوسنا من أدران وهموم وضعف، فنخرج من زيارتنا تلك مرتاحي البال وأكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة. كنت أترشّف قهوتي وأتابع أخبار فريق الشعب في الصحيفة الأسبوعية الصادرة يومها، لمّا لمحت طيف شخص يقف إلى طاولتي ويستأذنني في الجلوس. بادر بتقديم نفسه بعد التحية، فقال أنّه صحفي أوروبي يريد التحدّث إليّ في شأن يهمّني.
ودون أن ينتظر دعوتي إيّاه إلى الجلوس، سحب كرسيا واسترسل: لاشكّ أنّك تتساءل ما عسى أن تكون حاجة هذا الأوروبي الغريب إليك؟ ومن دلّه عليك؟
فاجأه ردّي بهدوء: "ألست مارسال غونزاليس الصحفي في برنامج مبعوث خاص الذي تبثه القناة الفرنسية الثانية؟" تراجع إلى الخلف قليلا وقد بدا كمن جرّدوه من سلاحه فاستسلم... طلبت له شايا أخضر بالنعناع وماء معدنيا دون أن أستشيره. وقبل أن يردّ على سؤالي، واصلت: "ما الذي يمكن أن يشدّ برنامجكم الناجح عالميا إلى أهل هذه القرية المنسية؟ هل جئتم لإنجاز تحقيق حول زحف الرمال والجراد؟"
"من قال لك أنّنا هنا من أجل تحقيق تلفزي... لم لا نكون هنا للسياحة والاكتشاف فقط... قريتكم ليست منسية بالقدر الذي تتخيّله... نحن فعلا هنا من أجل تحقيق تلفزي مثير. ولا أظنّك تشك في احترافيتنا. فقد حصلنا على كل التراخيص الضرورية من السلط المختصّة. ولكنّني أودّ أن نتحادث في هذا الأمر في مكان بعيد عن الفضوليين. تكفيني الآن موافقتك المبدئية وتحديد موعد للقاء في مكان آخر."
أثنى على مذاق الشاي وعلى عذوبة أغنية أم كلثوم التي يبثها المقهى. وقال أنّ ذلك يعطي لهذا المكان المقابل للمقبرة مع اقتراب ألأصيل مناخا فريدا يمزج بين الرومنسية والروحانيات. وقد تزامن ذلك مع وصول أخواتي إلى باب المقبرة فلوّحت باتجاههن أنّني قادم. أربكني تعليقه وهو يصافحني مغادرا: "ها قد حان وقت زيارة قبر المرحوم. أتركك للقاء الوالد"...
"أهذا صحفي أم جاسوس؟" خمّنت في سرّي وأنا أنزل عتبات المقهى متلعثم الخطو ومشوّش الذهن.
التحق بي قبل أن أعبر الشارع نحو المقبرة: "لم نحدّد موعدا للقاء. هذا رقم النزل الذي أقيم به في مدينة توزر. يسعدني كثيرا لو تقبل دعوتي إلى شرب كأس هذا المساء..." صافحني مجدّدا وهو يدسّ في يدي ورقة صغيرة دوّن عليها رقم التلفون، ثمّ ركب سيّارة مستأجرة وغادر باتجاه توزر.
(2)
فوجئت بأنّ موظّف الاستقبال كان الناصر زميل الدراسة في الثانوية. لمّا شرحت له لماذا أنا هناك، خاطب مارسيل غونزاليس في غرفته ليعلمه بوصولي فطلب منه أن يدعوني إلى الالتحاق به في الغرفة 534. داخلتني الوساوس بخصوص نوايا مارسال ، وزاد من عدم ارتياحي ابتسامة النّاصر المتواطئة التي عجزت عن تفسير مغزاها. هل أساء الظنّ بي؟ وحسبني ممّن يطاردون المثليين الأوروبيين؟ ولكنّ شيئا ما بداخلي كان أقوى من ريبة الناصر وخوفي على سمعتي دفعني إلى الاستجابة إلى دعوة مارسيل للالتحاق به في غرفته.
وجدته بانتظاري في ردهة الطابق الخامس أمام باب المصعد مرتديا روبا من الساتان البنفسجي اللّمّاع. بدا لي في مشيته منتشيا بقدومي وهو يمشي أمامي كغانية. طردت هذه الوساوس التي كادت تجبرني على العودة من حيث أتيت. وقد لاحظ مارسيل عليّ ذلك.
"طلبت تغيير غرفتي من الطابق الأوّل إلى الطابق الخامس، حتّى يمكنني تصوير لحظة الغروب عندما تتسامق الخيالات وتتمدّد فوق كثبان الرمل التي تتحوّل من الأصفر إلى الأحمر. إنّها لحظة رائعة تنقلك إلى عوالم أخرى. دعنا نتأمّل الغروب سويا ونصوّره، وبعد ذلك نتحدّث. هل تشرب الكحول؟"
وفيما انشغل مارسيل غونزاليس بتضبيط عدسته وزوايا التصوير من تلك الشرفة العالية، جلست إلى جانبه على أريكة متأرجحة أسرّح نظري في الأفق مستمتعا بكأس الأنيزات وبالموسيقى الكنسية التي كان يبثّها من حاسوبه. بدا لي هذا التوليف التلقائي بين المشهد الممتد أمامي والموسيقى المصاحبة، موفّقا إلى حدّ جعلني أرى في طيف ذلك الرجل العائد إلى بيته يقود جمله بعد يوم من التجوال بالسياح على ظهر دابّته، مبشّرا مسيحيا يضرب بعصاه في الأرض داعيا إلى دينه.
كنت على وشك البكاء كعادتي أمام الجمال السّاحر، لمّا أعادني مارسيل إلى الواقع وهو يدعوني إلى تأمّل نتيجة عمله. ولكنّه سرعان ما أرجعني إلى حيث كنت لمّا شاهدت ما جادت به الكاميرا... ولبرهة ظل فمي مفتوحا وعيناي شاخصتين في تلك الصور... كنت أتساءل كيف أمكن لهذه العين الأجنبية أن تلتقط جمال بيئتنا وتفاصيلها بسرعة وبعمق أكبر ممّا يمكن لأكثرنا نباهة وإحساسا أن يفعله. لعلّ السبب يكمن في أنّها عين أجنبية عذراء تنتبه لما تسهو عنه عين أبلاها التعوّد.
طلبت من مارسيل كأسا ثانية وغرقت في الصمت بعدما نسيت سبب وجودي هناك أصلا... قال مارسيل وهو يناولني كأس الأنيزات: "ربّما فكّرنا في استهلال تحقيقنا التلفزي ببعض من هذه اللقطات" أعجبتني لباقته في الانتقال والرّبط، فعقّبت: "وحبّذا لو وضعتم هذه الموسيقى الكنسية كخلفية صوتية للمشاهد"... استرسل مارسيل:"لاستهلال التحقيق، أنا متردّد بين تصويرك جالسا في بهو المقهـــى مسرّحا بصرك في القبور الترابية الممتدّة أمامك على خلفية أغنية لأم كلثوم وبين هذا المشهد للجمّال السائر خلف ناقته فوق كثبان الرمال في هدوء الأنبياء. كلاهما سيكون مدخلا مناسبا جدّا لبيان العدوان الصناعي والتكنولوجي على هذا النمط من الحياة" كان يتقدّم من خلال كلّ جملة ينطقها خطوة إضافية في الكشف عن مهمّته بنفس القدرة اللافتة على الرّبط والتخلّص. ورغم أنّني لم أتبيّن بعد علاقتي بمثل هذا الموضوع، إلاّ أنّ إحساسا بالطمأنينة والثقة بهذا الصحفي داخلني فجعلني أتخلّى نهائيا عن أيّ نوع من التحفّظ. مرّت بخاطري بشكل خاطف مقارنة بين حرفية هذا الصحفي وعربدات صحفيينا الذين ينكّلون بأعصابنا كلّ ليلة في مختلف القنوات التلفزية.
وفي الوقت الذي فكّرت فيه بطرد هذه الأفكار التي تشوّش عليّ متعة اللحظة، سمعت مارسيل يسألني: "بماذا تحس عندما تقف إلى قبر أبيك؟ بماذا تفكّـــر؟ هلاّ حدّثتني كيف مات؟"
كان موته فجائيا وبشكل غير مألوف. لم يمنعنا حزننا عليه من أن ندفنه. فنحن قوم نؤمن بالقضاء والقدر. ووالدي ليس أوّل من غدره الموت. وبالنهاية، فالموت بطبعه غدّار طالما أنّه لا أحد يختار ساعة موته ولا طريقته. هناك من الناس من يكون جالسا فيسقط عليه جدار ويدفنه حيا. وهناك من يجرفه وادي هادر فيضيع وهناك من تفترسه الذئاب وهناك من تصعقه البروق والرعود. مات في عاصفة رملية، وهو عائد من مزرعته في الواحة... لم تكن من أشدّ ما عرفناه من عواصف. فقد يحصل أن تكون هذه العواصف من الشدّة أن تجتثّ النخل من جذوره وتطرحه أرضا وتطيّر الجريد في السماء كأكياس البلاستيك... وجدوه مغطّى بالرمال والدم يكسو وجهه. الأرجح أنّ مات مصابا بجريدة نخل أو بصفيحة زنك طيّرتها الريّح... هذا كلّ ما في الأمر... الثابت أنّه مات ولاشيء سيعيده لنا. قدّر اللّه وما شاء فعل. هذا كلّ ما في الأمر...
كان مارسال صامتا وللحظة ساورني الشكّ بأنّه صوّرني بالكاميرا، لكنّي لم أجرؤ على سؤاله للتأكّد... ارتفع صوت الموسيقى السمفونية في جهاز الحاسوب وتناهت إلينا أصوات مآذن المدينة تعلن عن صلاة المغرب... اعتذر مارسال عن تحريكه لمواجعي، واقترح عليّ كأسا جديدة ثمّ دعاني إلى مشاهدة خبر تلفزي قديم مسجّل على حاسوبه الشخصي. كان الخبر يتحدّث عن دخول مركبة فضائية روسية في الغلاف الجوّي للكرة الأرضية بعدما فقد الرّوس السيطرة عليها، وإمكانية تفجّرها لتتلاشى شظاياها في الجو وتقع أرضا. وفيما تكتّم الرّوس عن موقع تفجّر المركبة، أفادت وكالة الفضاء الأوروبية وفقا للخبر الصحفي أنّ المكان المتوقّع لتفجّرها سيكون فوق شمال إفريقيا في التاسع من أكتوبر 2015 مع منتصف النهار تقريبا، لتدرك شظاياها الأرض بعد خمس إلى ست ساعات تقريبا من تفجّرها.
أوقفت التقرير الصحفي بدوسة متشنّجة من يدي، وأنا أردّد "لا، لا، هذا غير ممكن... لقد ذهبتم بعيدا جدّا في تخميناتكم... لا، لا، هذا مستحيل.. ما دخلنا نحن في غزو الفضاء والمركبات الفضائية والأغلفة الجوية... يا سيّد مارسيل، هذه قرية منسية حتى من الرب نفسه، يعيش فيها أناس بسطاء يعيشون حياة بسيطة ويموتون ميتة بسيطة... هي مجرّد صدفة أن يتزامن تاريخ وفاة والدي مع تاريخ هذه الواقعة...
وبهدوئه الذي بدأ يستفزّني، أردف مارسيل غونزاليس بسؤال: "طيّب، وهل هي مجرّد صدفة أن يتلقّــــى أخوك منحة دراسية لمواصلة تعليمه بجامعة موسكو بعد وفاة والدك بستّة أشهر؟؟"... بدأت رأسي تثقل وتغرق في طنين غلّف أذني أمام محاصرة مارسيل لي بأسئلته المسترسلة التي لا تترك لي مجالا لأخذ النفس... وربّما ساعد كأسا الأنيزات على جعلي أحس بالدوار... وكأنّ مارسيل حدس ما يدور في دماغي، فبادر إلى قول ما كنت أنوي قوله: "لنكتف اليوم بهذا، ولنا عودة إلى الموضوع لاحقا..." سارعت إلى المغادرة رافضا اقتراح مارسيل بإيصالي إلى قريتي التي تقع على بعد عشرة كيلومترات من مدينة توزر... لم يلحّ مارسيل واكتفي بمرافقتي إلى باب الغرفة ومصافحتي.
عند خروجي من المصعد، قابلني الناصر عون الاستقبال بنفس الغمزة والابتسامة المتواطئة التي تفيض خبثا. ولكنّني تجاوزته بسرعة حتى لا أنفجر في وجهه.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى