درّاجـــة أبـــي الهوائيـــة

لم يكن لنا في البيت أثاث كثير، حتى أنّ عربة مجرورة ببغل كانت كافية لنقل كلّ ما نملك دفعة واحدة يوم انتقلنا إلى منزلنا بالحي العمّالي الذي بنته شركة الفسفاط قبل ست سنوات...
يبدو أن سكننا الجديد كان فيه من البركة ما جعل أثاثنا ينمو قليلا..
في البداية وزّعت الشركة على العمّال بيوت نوم تتكوّن من سرير لشخصين مع حشية صوفية وخزانة صغيرة وطاولة وأربعة كراس... خصّصنا لبيت النوم هذا غرفة سمّيناها "الدار الجديدة"، غرفة مغلقة طوال النهار للمحافظة على أثاثها،، لا تُدْخَلُ إلاّ ليلا... بعدها بسنتين اشترى أبي مذياع "فيليبس"، كان يشغّله على أعلى صوته كي يسمع الجيران أخبار إذاعة "هنا لندن" التي لم تكن مذياعاتهم قادرة على التقاطها... كان أبي يفاخر بمذياعه كفرس لا يهزم...
في الأثناء، اشترى جيراننا أشياء أخرى لا قدرة لوالدي عليها: تلفزيونات وثلاجات وطباخات بالغاز ودرّاجات نارية... وكان أبي يعلّق كلّما جاء ذكر الثلاّجة أو التلفزيون أن لا شيء ألذّ من ماء الشكوة (السماط) وأنّ التلفزيون الذي لا يلتقط "هنا لندن" ولا يظهر فيه عبد العزيز العروي مضيعة للوقت.... ولكنّ تعليقاته لم تكن تقنعنا ولم تكن قادرة على إخفاء نبرة المرارة التي ترشح من صوته...

لماذا اشترى أبي درّاجة هوائية ولا شيء آخر، خصوصا أنّها لم تكن أولوية في ما تحتاجه الأسرة؟؟ هل كان مدركا لاختلال التوازن في المنافسة الشرسة مع الجيران، فخيّر نقل المبارزة إلى ميدان آخر؟ هل استيقظ في داخله حلم طفولة دفين ذات يوم وهو يشاهد الفرنسيين أو الألمان يتفسّحون بدراجاتهم الهوائية في سعادة؟؟ أم أنّها الصدفة وحدها وضعت هذه الدرّاجة في طريقه فاشتراها؟
الثابت أنّ هذه الدرّاجة الهوائية غيّرت أشياء كثيرة في نسق حياتنا منذ دخلت منزلنا...
فهي قبل كلّ شيء جعلت أبي يظهر في صورة مختلفة عن سائر أرباب الأسر في حيّنا... كان أبي طويلا كنخلة، ويزداد طولا لمّا يلبس شاشيته الحمراء ويلفّها بالشال الكاكي. لمّا يركبها، يضطرّ من فرط طول رجليه أن يفرجهما كي لا تصطدم ركبتاه بقصبة الدرّاجة وهو يدير العجلات، وكان لا ينحني على مقود الدرّاجة فيحافظ على ظهره مستقيما كجدار. هكذا يبدو وهو يقود دراجته كفزّاعة الطيور في حقول المزارعين... وكانت تفيض على وجهه وهو يقود درّاجته علامات السعادة والانتشاء فتغطّي وجهه تعبيرة طفولية أحسّ معها كأنّني عرفته أيّام كان طفلا ولعبت معه... كان يجمع عند قيادة درّاجته بين التركيز والفرح فيبدو طائرا. ولم يكن يأبه بما يثيره ذلك من تعاليق لدى الجيران وأطفال الحي خصوصا لمّا يكون في وضع النزول من منحدر أو الصعود إلى تلّة... فهو في الحالة الأولـــى يمسك المقـــود بيدين ممدودتين إلى آخرهما حتى يترجع ظهره المستقيم إلى الخلف ويكفّ عن إدارة الدوّاسات برجليه تاركا الدرّاجة تتزحلق لوحدها بينما أصابعه في حالة تأهب قصوى لشد الفرامل عند الحاجة والجرس لا يكف عن الرنين. أمّا عند الصعود، فيأخذ وضع الدرّاج المحترف وهو يتسلّق جبلا، حتى أنّه يصادف أن يقف من على الكرسي، لتخفيف الوزن وجعل الدراجة تصعد دون عناء.


كان واعيا تماما بالمزايا الصحّية والاقتصادية للدرّاجة الهوائية، فيستغلّ ذلك لمحاججة جيرانه ممّن يملكون درّاجات نارية لا قدرة له على شراءها، فالموتورات تصيب بالكسل وتنهك الجيب بمصروف البنزين... لم يكن منتبها إلى مزاياها البيئية وإلاّ كان شهّر بجيرانه بوصفهم أعداء الطبيعة والبيئة...
صارت درّاجته كلّ شيء في حياته... يذهب على متنها إلى الشغل، ويسترق برهة ليزور المنزل أثناء حصة العمل، يذهب بها إلى السوق لشراء ما نحتاجه... ويحملنا أنا وأخي على متنها في جولة عبر شوارع الحي الأوروبي المزهرة والمنظّمة... كان يقول لنا "هؤلاء (ويقصد المهندسين الفرنسيين) يعرفون قيمة الدراجة الهوائية عكس أولئك الأجلاف"... وقد وصل به التمسّك بدرّاجته والاعتزاز بها إلى أن سافر بها إلى مدينة الرديّف على بعد 20 كيلومترا لاستخراج وثائق إدارية وعاد في نفس اليوم...
لها مكان ثابت في البيت، تحت التوتة حيث يشدّها بذلك الوثاق الحديدي المجهّز بمفتاح تحكّم ويغطّيها بقطعة بلاستيك جلبها خصّيصا من مكان عمله.
كانت له طقوس في صيانتها وتعهّد فراملها وإطاراتها وأضواءها... يقلب الدراجة على رأسها فيمسح سلسلتها بفتيلة زيت، وهو يديرها بقوّة حتى تصير سلسة لا صوت فيها، ويشدّ حبل الفرامل بعناية، ثمّ يتفقّد ضغط الهواء في العجلات، ومنها يمرّ لتفقّد مولّد الكهرباء وضوء الفانوس، بعدها يقوم بتعديل صوت الناقوس المنبّه، ثمّ يعيد الدراجة إلى وضعها الطبيعي فيثبّت صندوق البلاستيك على الكرسي الخلفي ويربّت على كرسي السائق بحنو كما لو كانت حصانا أليفا. والويل كلّ الويل لمن اقترب منه أثناء ذلك ليشوّش عليه تركيزه وهو مقرفص يعالج الدرّاجة بمفكّ البراغي أو المطرقة عاضا لسانه على طرف فمه...
كان أكثر ما أحزنه عندما تعرّض لحادث شغل منعه من أن يطوي ساقه على مستوى الركبة، هو حرمانه من ركوب الدرّاجة... ولكنّ تحرّقه لاستئناف ركوبها هو ما جعله يواضب على حصص التدليك. بل إنّ ركوبها ساهم بقسط كبير في علاج الركبة واستعادتها لعافيتها.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى