الإهانة والجفون الثقيلة المُغْمضـــة


هذه ترجمة لمقالة كتبها الجزائري كمال داود عن بلده... قرأتها بالفرنسية على صفحة  الفايسبوك للصديق Abdelkrim Gabous . في تقديــمه للمقالة، دعا عبد الريـــم القارئ إلى تعويض الجزائر بتونس.

 منذ قرأتها وأنا لا أتوقّف عن حكّ جلدي، والرغبة في تقيّؤ أحشائي لغسلها ثمّ ابتلاعها من جديد، لا تفارقني...
شكرا كمال داود، شكرا عبد الكريم قابوس
الإهانة والجفون الثقيلة المُغْمضـــة
كمال داود، الجزائـــر
ترجمها من الفرنسية إلى العربيـــة: جلال الرويسي
في طريق العودة من الجزائر العاصمة. من وراء زجاج القطار، الأرض أشجار تسير في الاتجاه المعاكس. حاويات زبالة فوضوية، منازل غير مكتملة البناء، مدمنو كحول مستندون على ما تبقّى في القرية من جدران، وأطفال يرجمون شبابيك القطار بالحجارة والضحكات البريئة.
أمّا السّماء فهي اللامبالاة المصمّمة منذ الأزل، منذ الآية الأخيرة. والغيوم رخويات بحرية. الليل يزحف ببطء وهدوء. يجثو أوّلا على الجبال ثمّ يتمدّد ليمحو حدودها مع الفضاء... شتات أفكار يعبـــر الخاطر... ماذا سأكتب لصحيفة الغد؟ عن قمع المدوّنين؟ أم عن اللامبالاة؟ عن فترة حكم بوتفليقة؟ عن أعمـــدة الكهرباء، هذا الشيء الوحيد المضيئ الذي لا يزال واقفا في الجزائر؟
سأكتب عن الإهانة. إنّها تعنينا جميعا، إنّها تمسّ الكلّ.
انتهت الإهانة بالبعض إلى الخنوع، تلك الرّغبة المجنونة والخرساء في الانبطاح أكثر فأكثر، إلى درجة أن يصيروا حسّاسين لجفن السيّـــد، لصوت رمشه اللامسموع وهو يغمضه. هناك آخرون يدفعهم ما يسبّبه الإحساس بالإهانة من ألم جسدي إلى تفضيل المنفــى، أو إلى الحلم به عندما يكون غير ممكن. ينتهي الأمر بالمرء إلى القرف من كلّ شيء ومن الجميع، حتّى من جسده ذاته الذي تحوّل إلى مجــرّد كيس. عندها، يصير الحلم أن تبدأ من جديـــد في القطب الجنوبــي. أن تحتضن الثلج بكلّ حميمية حتى يطهّــرك ببياضه في عرسه الفاني، أن تنام إلى الأبــــد بعيدا عن كلّ الأعلام والرايات...
في الجزائــــر، الإهانة شعــــور وطني. نحسّ أنفسنا وسخين. كلّما حدّثنا بعضهم عن ملحمة حرب التحرير، وعن حبّ الوطن، كلّما ازداد إحساسنا بالإهانة التي يلحقها بنا تجّار الحاضر. لأنّ الماضي أكثر كرامة من الحاضر. ولأنّ اليوم هو مقبـــرة الأمس، يرهقنا الإحساس بالخطيئة. نحلم بالثـــورة لأسباب صحية أكثر منه نتيجة قناعات سياسية. أن نبدأ كلّ شيء من الصفر في هذا البلـــد، هو السبيـــل الوحيد كي نعيد له كرامته...
القطار ينزلـــق على سكة الحديد، يتوقّف ثم يستأنف السير، ولكنّ البلـــد يدور في حلقة خاويـــة ويبحث في ذاكرته عمّا يفتقده في جيوبه وبين يديه. هي الرّغبة نفسها في أن تغادره وفي أن تحرّره. هما نفس الإحساس بالغضب وبالإهانة، هما نفس الإحساس بالجبن وبصحوة العقل، اللذان سيصنعان بكلتا يديهما تلك التكشيرة الفريدة.
الإهانة سمّ بطيء المفعـــول. نتغاضى عنه في البداية بدافع الكسل وطلب الرّاحة، حتّــى يتوغـــل في الدم ويفرض عليه لونـــه. ينتهي بك الأمر خانعا مستسلما من حيث خلت نفسك حذرا فطنا. تتفـــرّج على سجـــن يبنـــى للآخرين، فتكتشف في الأخير أنّه سجنك أنت. تقـــول لنفسك "هذا لا يعنينـــي، ليس من واجبـــي أن أبدأ، أن أكون المبادر" ثمّ تعود إلى بيتك. يمكنك أن توقف كلّ شيء عند عتبة البيت. كلّ شيء يظلّ خارج العشّ الدافئ، كلّ شيء سوى الإهانـــة. ستتسرّب إلى فراشك، لأنّها معشّشة أصلا في دماغـــك. أنت تدرك ذلك. ونحن ندرك ذلك. أطفالك أيضا يدركـــون ذلك.
نتكلّم بتوتّر، نرفع أصواتنا، نتحجّج بمصلحة أطفالنا وبحكايات الأبطال المخدوعين كي نبرّر تخاذلنا وكي نثبت أنّه لا فائدة من أيّ شيء، ولكن في الجزائر الكلّ يعلم أنّنا جبناء ومسربلون بالإهانة. خنّا أنفسنا، بعنا أنفسنا، أخفضنا عيوننا وبنطلوناتنا، نحن مكبّلون بالخوف، نحن مطاردون ومشوّشو البال.
إذا كان حال البلد لا يتغيّـــر، فذلك لأنّني أنا الجالس إلى الحاسوب أنقر على لوحة الحروف، جبان، خوّاف، قابل للارتشاء، يهمنّي الطّعام قبل العلم الوطني، فراشي قبل أرضي، أشعر بنفسي ضعيفا، أنتظر أن يبادر الآخرون كي ألتحق بهم، أخاف من الضرب والتنكيل، غير قادر على الاختيار بين الحرّية والمهانة، أخاف من الفوضــى والرّصاص، فقد جرّبت الحرب الأخيرة، والفوضى وهيجان الجماهير يرعبانني.
أقول لنفسي: إذا تحرّكت فهذا سيؤدّي إلى الحرب الأهلية، إذن عليّ أن لا أتحرّك حتّى إذا اغتصبوني. أنا لا أفهم شيئا ممّا يدور حولي. ثمّ أعـــود إلى بيتـــي. ولكن سيأتي يوم أفقد فيه هذا البيت: سيتحوّل إلى خلافـــة، ميدانا لحرب أهلية. زلزال عنيف سيودي بحياتي، مجاعة، كارثــــة. ولكن، حتى يحصل ذلك، لأغلق عينــيّ وباب بيتي. وذات يوم، لن يتبقّــي لي سوى الباب، ثم سوى مقبض الباب، ثم مفتاح معلّق في خيط مشدود إلى عنقي، أو صورة لبيتي أو حذاء قديم أو جواز سفـــر عديم القيمة. ولكنّ الإحساس بالإهانة، سيظّل متلبّسا بي، أقوى وأعنف. ستصير الإهانة ثوبا ألبسه، يعرّيني بدل أن يغطّيني. أردّد للمرّة المليون، أنا محقّ في جبني وحذري. ولكن ما سبب هذا الإحساس المرّ والخانق؟ لماذا لا أستطيع أن أنظــر لنفسي في المرآة؟ ما الذي يجعلني غاضبا من نفسي على الدوام؟ ما الذي يجعل قلبي يحس بالخواء كلّما امتلأت بطني؟ لماذا كلّما آكل قطعة خبز في بلدي، أحسّ بأنّني سرقت خبز أبنائي وأختبئ لآكلها بعيدا عن أنظارهم؟
لا، لا عليّ أن أجد موضوعا آخر أكتب عنه لصحيفة الغد. مصير برنامج تلفزي جزائري مثلا. الإحباط جعل الأفكار تتزاحم في دماغي. أنا مع المساواة في الميراث بين الرّجل والمرأة. ألم يعلّموننا أنّ الله هو العدل؟ كنت أريد أن أقول أنّني تحدّثت عن الإسلاميين، لأنّهم يقتلون ويشتمون ويدفنون ويذبحون ويسعون إلى السلطة وليس إلى إنقاذي. كنت أريد أن أقول أنّهم مسؤولون على موت مئات آلاف الضحايا في بلدي وليسوا مسؤولين على بناء مئات الجسور في بلدي. بي رغبة أن أسأل "ما الذي يجعل كلّ من يحدّثونني عن الإسلام يفعلون ذلك بنبرة السباب والعنف والصراخ والقتل والحكم بالخيانة، وليس بنبرة الحب والهدوء؟ لماذا كلّ من يريدني أن أصير من أتباعه وأنصاره، يريد أوّلا أن يحوّلني إلى جثّة؟" كنت أريد أن أقول عدّة أشياء، ولكن هذه الأشياء لا تصلح أن تكون موضوعات لمقالة في جريدة الغد.
إذا كان لابدّ من موضوع... ليكن أن أحدّثكم عن تاريخ هذا البلد في مجلّدين من خلال وصف كرسي فارغ.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى