في ضوابط الفضاء الخاص والعام

صار التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام اليوم أكثر من ضرورة أمام التداخل بين هذين المجالين تحت تأثير عدّة عوامل، ممّا يهدّد بالتضييق على الحريات الأساسية والعامّة. من أهمّ أسباب هذا التداخل تعميم استخدام تكنولوجيا الاتصال الذي نتج عنه بروز فضاءات جديدة هجينة تقع بين الخاص والعام، دون أن يترافق ذلك بما يكفي من الوعي بخصوصيتها والتحديات الإيتيقية والاجتماعية والقانونية والنفسية التي تطرحها. من أسباب هذا التداخل أيضا حداثة عهدنا في تونس بالممارسة والثقافة الديمقراطيتين. فنحن لم نشف بعد من مخلّفات المنع وتكميم الأفواه وما خلّفه ذلك من عصاب جماعي وإحساس بالغبن والإقصاء.
قد لا نختلف في تعريف مفهوم الفضاء الخاص والفضاء العام. ولكنّنا سنختلف على الأرجح في ما يترتّب عن هذين المفهومين من ضوابط  العيش والمعاملات والتواصل داخل كلا الفضائين.
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أنّ الفضاء الخاص هو ملكية خاصّة بينما الفضاء العام ملكية عامّة. فطاولتي بالمطعم هي فضائي الخاص رغم أنّها ليست ملكيتي الخاصّة. والقناة التلفزية فضاء عام رغم أنّها مملوكة لمستثمر خاص.
يؤكّد يورغان هابرماس مؤسّس مفهوم الفضاء العام، على أنّ الفضاء الخاص هو فضاء مغلق، لكونه مجال الفعل الحميمي والاتصال الفردي. بينما الفضاء العام فضاء مفتوح، لكونه مجال التعايش والفعل المشترك، وبالتّالي فهو فضاء الاتصال الجماهيري. ويضيف هابرماس أنّ الاتصال الفردي يتأسّس على مبدأ تحديد الهوية الفردية، أي معرفة كل طرف للآخر معرفة دقيقة بالاسم والوجه. بينما يقوم الاتصال الجماهيري على مبدأ تحديد الفئة الاجتماعية. فعند تلقّيك مكالمة هاتفية أو زيارة منزلية، تحرص على معرفة من هو مخابطك أو زائرك لتحدّد استراتيجية التعامل معه. أمّأ إذا كنت فنّانا أو صحفيا أو مدرّسا أو سياسيا، فسيكفيك معرفة فئة الجمهور الذي تتوجّه إليه كي تحدّد أسلوب خطابك ومحتواه.
لابدّ من الإشارة إلى أنّ الحدود بين الفضائين ليست عازلة تماما، بدليل استغلال الفضاء العام أحيانا للتواصل الفردي، مثل ما يحصل عندما توجّه الإذاعة خطابا شخصيا لفرد أضاع حافظة أوراقه، أو مثل شخصنة الشرح لتلميذ بعينه من قبل الأستاذ. لكنّ هذا لا يجب أن يتّخذ مبرّرا لفتح الحدود بين المجالين على مصراعيها، لأنّ ذلك قد ينتهي إلى المساس بالحريات الشخصية والعامّة.  
من الأمثلة على ممارسة التواصل الفردي خارج إطاره بتصديره إلى الفضاء العام، أذكر ما فعله أحد أبناء قريتي لمّا كلّفه مدير المهرجان الثقافي بالدعاية لحفل على متن سيارة المهرجان. دخل حارتنا وخاطب بنت الحي عبر مضخّم الصوت مفصحا لها عن هيامه بها. قد لا يتعدّى الأمر مجرّد انعدام الذّوق والتحضّر، عندما نسمع مثلا امرأة تتبجّح داخل المترو بما طبخته البارحة وهي تتحادث مع مرافقتها، أو لمّا يتعمّد أحدهم إفهامك أنّه رجل أعمال من خلال مكالمة هاتفية يجريها في حافلة النقل العام، دون أن ينتبه إلى أنّ رجال الأعمال الحقيقيين الذين يتشبّه بهم لا يركبون وسائل النقل العام. لكنّ الأمر يصير خطيرا عندما يتحوّل إلى نشر غسيل الناس عبر التلفزيون في ما يسمّـــى تلفزيون الواقع حيث تتحوّل حميميات البسطاء إلى فرجة تلحق بهم الإهانة والإذلال ("عندي ما نقلّك" مثالا).
في المقابل، تعترضنا حالات كثيرة من الاتصال الجماهيري يتلقّاها بعض الأشخاص على أنّها خطاب فردي موجّه لهم شخصيا. وأسباب ذلك كثيرة، يأتي على رأسها سوء الفهم لدى المتقبّل أو عدم التوفيق في اختيار الخطاب المناسب للجمهور المستهدف. خذ مثلا انقطاع تلميذ عن الدراسة بسبب اعتقاده أنّ الأستاذ يقصده هو بالذات كلّما تحدّث عن عديمي الذكاء والفاشلين.
وقد زاد تعميم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال خصوصا مع ظهور الميديا الاجتماعية (شبكات التواصل الاجتماعي) من هذا التداخل إلى الحد الذي خلق فوضى اتصالية مقنّعة وراء شعار حرية الرّأي والتعبير. فهل الصفحة الشخصية على الفايسبوك أو المدوّنة الشخصية فضاء عاماّ أم خاصّا؟ قد نتوه وراء اعتبارات قانونية وفلسفية وأخلاقية إذا ما انسقنا وراء إجابة فورية. لكنّنا سنكتفي بهذا القياس لعلّه يساهم في تنقية الصّورة. هل يمكن لشخص أن يشرع شبابيك بيته على مصراعيها ويتجوّل عاريا تحت أنظار جيرانه متحجّجا أنّه داخل فضائه الخاص؟ نكتفي بهذا القياس لتلمّس الحدود الفاصلة بين الفضائين العام والخاص.         
بقي أنّ الفضاء العام ليس فقط فضاء ماديا ملموسا كالحدائق والساحات العامّة والرّصيف والإدارة والوطن. فهذه أفضية واضحة الحدود والمعالم يمكن ضبط الاتصال والتعامل داخلها بالقانون وبالأعراف. إنّ للفضاء العام كذلك تمظهر رمزي ولا مادي مثل الهويّة والعادات والتقاليد والدين واللّغة.
يجعل هذان الوجهان المادّي والرّمزي من الفضاء العام مجال تجاذبات ورهانات اقتصادية وسياسية وثقافية (قيمية)، وهو ما يحوّل التواصل الجماهيري داخلهما إلى ما يشبه الاحتكاك المولّد للحرارة في الميكانيك.
ففي حين يرى البعض أنّ هذه الأفضية الرّمزية هي مجال التنوّع والاجتهاد والمراجعة لكونها مبذولة للجميع ومشتركة لا وصاية لأحد عليها، يعتقد آخرون أنّ طابعها المشترك يتطلّب أن تكون مجال التطابق والتناسخ لا إمكانية فيها للاختلاف أو الخروج عن الصف. إنّها برأي هؤلاء مجال المقدّس الذي لا يجوز المساس به. وينصّب هؤلاء أنفسهم حرّاسا لهذا المشترك المقدّس. هذا ما تتذرّع به سلطة الرقابة على الصحافة والأدب والفن عندما تقرّر صنصرة مقال أو منع كتاب أو عمل فنّي. يقول المبدع أنّه يعالج ظاهرة ولا يتقصّد أشخاصا بعينهم، ويجيبه الرّقيب بأنّه قادر على قراءة ما بين السطور فيمنع ويجيز باعتماد الحكم على النوايا، وذرائعه في ذلك متنوّعة تتراوح من الديني إلى الأخلاقي فالسياسي والأمني.
وتعجّ الساحة التونسية لما بعد 14 جانفي 2011، بالأمثلة الواقعية المجسّدة لخطورة هذه التجاذبات وحدّتها. فقد تعالت أصوات الجهات التي تسمح لنفسها برسم حدود الفضاء العام الرمزي ملحّة على قداسته ومنصّبة نفسها حارسة له، إلى حدّ صار يهدّد الفضاء العام بمفهومه الواسع بالانحصار وبالتحنيط. فهل نسينا الصخب الذي أعقب عرض شريط الرسوم المتحرّكة "برسيبوليس" على قناة تلفزية؟ هل نسينا واقعة قاعة أفريكارت لمّا منع المتطرّفون عرض فيلم نادية الفاني "لا الله لا سيدي" Ni Dieu, ni maitre؟ هل نسينا واقعة الهجوم على معرض الفن التشكيلي بقصر العبدلية؟ وكذلك اضطرار نجيب خلف الله مخرج مسرحية "ألهاكم التكاثر" إلى تغيير عنوان مسرحيته؟ وبدعة تصنيف الشواطئ إلى نسائية ورجالية؟ وأخيرا الجدل الذي أثاره تعرّي الممثّل السوري فوق ركح المسرح البلدي؟ هذا دون أن نتحدّث عن تهديم زوايا الأولياء عبر جهات البلاد من شمالها إلى جنوبها. إنّ من يسعى إلى خنق الفضاء العام على هذا النحو الممنهج والمنظّم لن يتوقّف غدا عند هذا الحد. الدور القادم سيكون على فضاءات الاختلاط في المدارس والإدارات والمستشفيات...  كلّ هذا يهدّد بالقضاء على الفضاء العام بما هو فضاء التعايش والانتماء المشترك، الذي لا يمكنه أن يستمرّ موجودا إلاّ متى ظلّ قابلا للإثراء والمراجعة بعيدا عن الوصاية والمصادرة والتحنيط.
من الصعب فصل مفهوم الفضاء العام عن مفهوم الديمقراطية الذي أفرزه، رغمّ أنّ هذا المفهوم الأخير ليس محلّ اتفاق كما قد يعتقد الكثيرون، لأنّ العلوم السياسية تجاوزت المفهوم اليوناني للديمقراطية في أكثر من حقبة ومن أكثر من زاوية. فلئن كان هناك من يرى في الديمقراطية آلية تمثيلية يحكم من خلالها المحكومون على من يحكمهم، فيختارونهم ويجدّدون لهم التفويض أو يعاقبونهم بالإقصاء في حالة عدم الرضى، وفق قاعدة الأغلبية، فإنّ هناك من يعترض على مفهوم الأغلبية ذاته، معتبرا أنّ الأغلبية الوحيدة هي الكلّ أي المجموع غير منقوص، وما سوى ذلك أقليّات تترواح من أقلية كبيرة إلى أقلية صغيرة. فمن وجهة النظر هذه، ما تعوّدنا على تسميته بالأغلبية ليس في حقيقة الأمر إلاّ أقوى الأقليات. لذلك يحذّر أصحاب هذا الرّأي من استفراد الأقلية الأقوى بالرّأي وإفصاء الأقليات الأصغر. وتأسيسا عليه، يعرّفون الديمقراطية بأنّها التعايش بين الأقليات من كبيرها إلى صغيرها. وقد يكون النظام الانتخابي باعتماد أفضل البواقي تجسيدا لهذه الفكرة.
يعتبر هابرماس الفضاء العام الابن الشرعي للديمقراطية، بما هي أكثر من أسلوب للحكم ومن آلية للتبادل السلعي الحر، أي بما هي طريقة للعيش المشترك تتأسّس على ضرورة منح الشرعية لأيّة قاعدة قانونية أو اقتصادية عبر النقاش في هذا الفضاء الذي يتوزّع إلى ثلاثة مجالات تعمل في شكل حلقات لكلّ منها آلياتها وضوابطها الخاصّة دون أن تكون معزولة عن الحلقتين الأخريين. المجال الأوّل هو الفضاء المجتمعي المفتوح حيث تناقش القواعد والقوانين بمستويات متفاوتة من العمق والتناغم والتنافر، والمجال الثاني هو الفضاء السياسي أي دوائر الحكم حيث تصاغ السياسات وتتّخذ القرارات. أمّا المجال الثالث فهو فضاء وسائل الإعلام الجماهيري حيث يفترض أن يلتقي المجالان الأوّل والثاني ليتصارعا من أجل تشكيل ما يسمّــى بالرّأي العام.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

مثلّث الطّبخ[1]

أم العرائس - عروس القرى