الحضرة: أو عشرون سنة من النافات بين المادي والروحاني

 

منذ دشّن مشروعه الأثنوموسيقي الهادف إلى تصنيف مدوّنة الموسيقى الشعبية التونسية، وبالتحديد منذ عرض النوبة في مطلع تسعينات القرن الماضي، ما انفكّ الفاضل الجزيري يمدّ الجسور بين المادّي والروحاني لدى هذا الشعب... بالتشريح الأثنولوجي المجهري لتفاصيل المعيش المضمّخ بالموروث الحي من طقوس وعادات ولباس وحلي وزينة ومفاخرات وفحوليات ومماحكات وتواطؤات وغمزات وتضمينات وتضرّعات، وتركيب كلّ ذلك على التعبير الموسيقي النابع من المعيش اليومي والملتصق به، مستفيدا من مهاراته ومعارفه المسرحية في التوضيب الرّكحي وإدارة الممثّل ومستعينا بكفاءات في التوزيع الموسيقي الذي يكشف الأبعاد الجمالية المخفية في ثنايا آهات الشعب وابتهالاته ورقصاته، بهذا النسيج المركّب، تمكّن الجزيري من تفجير مكنون الوجدان الجماعي ومصالحة الأجيال الجديدة مع نبض أجدادهم، ولكن أيضا من جعل الأجداد يحسّون نبض العصر ويحضنونه ليكتشفوا الطاقات الخلاّقة لدى أحفادهم... هكذا، ومن خلال هذا المشغل الاثنوموسيقي، نجح الفاضل الجزيري في تعهّد الجين الفني والثقافي لهذا الشعب ونقله عبر الزمن، بنفس نجاح الإنسان في المحافظة على شعلة النار الأولى في فيلم la geuerre du feu.

استطاع الجزيري مع ثلّة ممّن تعاونوا معه كسمير العقربي في الموسيقى وسهام بلخوجة في د الكوريغرافيا، ولكن أيضا علي سعيدان الذي واكب عروضه الأولى وخاصّة عرض النوبة بالنقد والتحليل، استطاع أن يجترح وشما في روح التونسي ويوقظ نبضا كاد ان يخمد في عروقه، لم ينجح فيهما لا المفكّرون ولا السياسيون من يمينهم إلى يسارهم... كان بالفعل صاحب مشروع متكامل بدأه بالنوبة ثم الحضرة ثم نجوم ثم زغندة وعزوز في انتظار السطمبالي والمالوف... موسيقى العمال والمهمّشين في الحواضر (حبوبة والفرزيط ) والبدوي (اسماعيل الحطّاب) والموسيقى الصوفية (الحضرة) وموسيقى الكافيشانطا (نجوم وزغندة وعزوز) وموسيقى الزنوج (السطمبالي) وموسيقى الأندلس ولم لا موسيقى الأتراك واليهود إلخ... حتى فيلمه "ثلاثون" عن المصلح الاجتماعي الطاهر الحدّاد، لم يخرج عن إطار هذا المشروع، فقد أراده صاحبه رافدا سينيمائيا للمشروع..

من خلال الموسيقى الحية التي يؤدّيها فنّانون ينطقون باسم الشعب، ولا تلك الموسيقى المتقنة حد التعليب على خشبات المسارح او في اسطوانات دور التسجيل، تمرّ أمامنا فسيفساء المجتمع التونسي وتنوّعه الإثني...

بعد ذلك تناسلت تجارب المقلّدين التي تستنسخ الأصل، وهذا طبيعي فليس الجميع بإمكانه أن يؤسّس، تجارب فيها نجاحات وفيها فضاعات. من أبرز تلك النجاحات شغل الهادي حبوبة مع سيد علي سعيدان في مرثية المرحوم جديرة التي هي ريمايك للحن وضعه الفقيد الهادي قلة، وروّح من السوق عمّار للثنائي زياد غرسة والهادي حبوبة... منها أيضا بروز المنشد أحمد جلمام، والمنسيات للسعد بن عبدالله، ومنها كذلك تعبيد الطريق لرشدي بن بلقاسم في مشروعه الذي يسائل الجسد ويصالحه مع إيقاع تونس...

نجح هذا المشروع في جعل التونسي(الشباب منهم خصوصا) يحسّ بعمق تونسيته وبثراءه الرّوحي، عكس ما يتّهمه به العربان من كونه متفسّخ منبتّ لا ارتباط له بجذوره، ونجح كذلك في لجم وكبح التيار الماضوي الرّجعي الذي كان يريد أن يحوّل أعراسنا الصاخبة والراقصة، أعراسنا المكهربة شبقا وجنونا وحبا للحياة، إلى ما يشبه المآتم في سهرات تقيمها فرق السلامية الخوانجية وما يخيم عليها من كبي إيديولوجي وعربدة صوتية في ميكروفونات سطوح العمارات أثناء ليالي الصيف...

هذا الكلام لا يعجب بالطبع المتأدلجين المتطرّفين يمينا أو يسارا. ولكنّ ذلك لن يغيّر شيئا من حقيقة أنّ مشروع الجزيري من أهمّ المنجزات الثقافية التونسية في الثلاثين سنة الأخيرة....

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مثلّث الطّبخ[1]

المكتبات في بيئة الويب 2.0 أو مكتبات الجيل الثاني

أم العرائس - عروس القرى