Articles

Affichage des articles du 2015

اليوم الأوّل في بانكوك

تطلّ برأسك من باب الطائرة مستعدّا للنزول نحو الحافلة الرابضة أسفل المدرج بانتظار القادمين. تلفعك حرارة غير عادية في وجهك لتوقظك من خدر الهواء المكيّف داخل الطائرة. رطوبة مرتفعة حتى تكاد لا تظفر بشيء وأنت تستنشق الهواء بمنخريك المفتوحين على أقصاهما كمنخري بغل. لا يسعفك فمك الذي تفتحه متلقّفا الهواء، وقد أطبق عليك الاختناق، إلاّ ببخار مثقّل بالماء كبخار الحمّام. بعض ثوان كافية كي تحسّ جلدك دبقا وملابسك ملتصقة بجسدك. لقد تحوّلت رئتاك من اسفنجتين رخوتين إلى بالونَيْ كاوتشو سميك ومتيبّس. "ما الذي دعاني إلى القدوم إلى هذا البرّ البعيد؟؟". وفي الخطوات الفاصلة بين مدرج الطائرة وباب الحافلة، تدرك معنى كلام الرياضيين عن استحالة لعب الكرة في مثل هذا المناخ المداري الرّطب والحارّ. تسترجع شيئا من حيويتك لمّا تصعد الحافلة، ويسعدك أن تتواصل الانتعاشة في فضاء المطار المكيّف. ولكنّ مغادرتك للمطار ترجعك إلى معاناة تلقّف الأنفاس. تستقلّ سيّارة تاكسي وتناول السائق ورقة عليها اسم النزل وعنوانه، فيدوس على زرّ ليشغّل مروحة بلاستيكية صغيرة، تشبه لعب الأطفال يوم العيد عندنا، ثمّ ينطلق. ي

صيّاد الأفكار

كان يتناول قرن البازلاء ويلوي أحد طرفيه لينفلق بطن القرن بفعل الضغط كاشفا عمّا في جوفه من حبيبات خضراء متلألأة. ينطّ بعضها ليسقط في الإناء فيما يبقى بعضها الآخر معلّقا بخيط نباتي رفيع في الجانب الباطني من القرن. يمرّر حسّان سبّابته في جوف القرن كالجرّافة ليمسحه ويخلّص الحبيبات العالقة فتسقط في الإناء لتلتحق بمثيلاتها . كان هذا التكليف في بداية التحاقه بمركز إصلاح الأحداث الجانحين بمثابة حصّة تعذيب قاسية. فلا صبر له ولا قدرة على تحمّل تكرار نفس العمليات الدقيقة واليدوية. ذلك يصيبه بالملل ويفقده أعصابه لأنّه لم يخلق لمثل هذه الأعمال التافهة. هذا فضلا عن أنّ كلّ حبّة بازلاء تنطّ خارج الإناء وتقع على الأرض، كانت تترجم إلى عقوبة رياضية بدنية قاسية . يتذكّر كيف كان يثور في وجه أمّه كلّما طلبت منه أمرا كهذا متعلّلا بأنّ ذلك شغل صبايا ونسوان، أمّا الرجال فشغلهم التفكير. كانت تلك تعلّاته لمغادرة البيت والالتحاق بأقرانه في الزوايا المظلمة من الحي، حيث يمارسون جميع أنواع الشقاوات. كان لا يطيق البقاء لوحده. يتصوّر أنّ خمس دقائق من العزلة كفيلة بإزهاق روحه، لأنّه يحسّ فعلا بالضيق والاخت

ثورة النهود

لمّا رنّ منبّه الآيفون، كانت الأمّ تغطّ في نومة عميقة وحلمة ثديها في فم البنيّة التي كانت ترضع وتخرخر بصوتها كقط وتخدش بأظافرها الحادّة صدر أمّها. لعنت الأمّ في سرّها هذا الجهاز الذي رنّ في يوم عيد الثورة فحرمها من النوم على راحتها ومدّت نحوه يدها لتخرسه دون أن تفتح عينيها. ثمّ ناولت الجهاز للبنيّة كي تلهيها عن الرضاعة وعن خدشها بأظافرها واسترسلت في النوم باستمتاع على غير عادتها وهي المجبرة على الاستيقاظ باكرا كلّ يوم لتجهيز البنيّة واصطحابها إلى محضنة الأطفال قبل التوجّه إلى مقرّ عملها بالوزارة... لم يكن ذلك حال زوجها الذي كان مضطرّا يومها إلى الاستيقاظ باكرا للمشاركة في الموكب الرّسمي للاحتفال بعيد الثورة باعتباره يشغل خطّة سامية بوزارة الصحّة . لمّا شبعت نوما، غادرت الزّوجة فراشها وأعدّت قهوة جعلت تترشّفها باستمتاع وهي تتابع على شاشة التلفزيون نقلا حيا لوقائع موكب الاحتفال. ثم شغلت نفسها بقضاء بعض الشؤون المنزلية في انتظار عودة زوجها الذي وعدها بخرجة إلى الشارع الرئيسي بالعاصمة للمشاركة في الاحتفالات الشعبية بالثورة... من الغد، ولمّا كان الزملاء يهنّؤون بعضهم البعض

سرّ القبر

تردّد الرّجل كثيرا في إعلام زوجته بالأمر. فقد لا يزيده تفاعلها إلاّ حيرة. إذ ما عساها تفيده به سوى أن تضرب يدا بيد في لوعة وتسرف كعادتها في إشعاره بالذنب وبسوء التقدير؟ فكّر أن يستشير الإمام، فربّما أفتى بفتح القبر وعندها لن يبقى عليه سوى استصدار ترخيص بذلك من السلط الإدارية. ولكن، ماذا لو أفتى الإمام بعكس ذلك، وصرّح بعدم جواز فتح القبر؟؟ كيف سيتصرّف في تلك الحال؟ وقبل ذلك كلّه، من يضمن أنّ الإمام سيجرؤ على فتح فمه أصلا بعدما حصل الذي حصل؟ لو كان شجاعا لتحدّى قرار الجماعة وخرج إلى الصّلاة على الميت وأشرف بنفسه على مراسم الدفن كما تعوّد أن يفعل... اقشعرّ جلده رعبا لمجرّد أن راودته فكرة نبش القبر بنفسه خلسة ودون إعلام أحد. فهذه مغامرة غير مضمونة العواقب. فمن سيصدّق روايته لو اكتشف أحدهم الأمر؟ ماذا لو اكترى ولد الحفيانة ليقوم بالمهمّة؟ لا، لا، لا ما هذه الحماقة؟  منذ متى كان للمنحرفين عهد وأمان؟ أمثال هؤلاء لا يؤتمنون على الأسرار؟  ما هذا القدر الأخرق الذي جاء به من فرنسا في ذلك الوقت ليدفع به إلى تولّي إنزال الميّت ووضع اللحود عليه؟ ولكن هل كان ممكنا ألاّ يفعل؟ فالحاضرون يومها قليلون

بنت الحي

لمحها منذ اليوم الذي سكن فيه الحي الشعبي حيث تمّ تعيينه للعمل بالمدرسة الابتدائية. من يومها صار يجلس إلى تلك الطاولة بالمقهى على جادّة الرّصيف ليرقبها في غدوّها ورواحها إلى حانوت حمدة العطّار وهي تتبختر في ذلك الجوغينغ الضيق وذلك النعل الطري كاللسان... تعجبه تلك الفولارة المربوطة إلي يمين الجبين واستدارات الجسد تحت القماش القطني الرمادي وطقطقات النعل وهو يصفّق على القدمين كلّما بدّلت الخطو وفرقعات العلكة التي تلوكها في فمها. حذّره بوجمعة نادل المقهى من خطورة الاقتراب من أخت "إسكوبار" لمّا لاحظ ولهه بالبنت، فاكتفى منها بلذّة النظر الحارقة... وظلّ على تلك الحال أسابيع والبنت المتفطّنة إلى ورطته تزيد من دلالها كل يوم أكثر، مثبّتة عليه نظرات جسورة تدعوه إلى مفاتحتها بالحديث، وهو يردّد في سرّه: "وإني امرؤ مولع بالحسن أتبعه ليس لي فيه سوى لذّة النظر" حتّى كان أن فوجئ بها ذات يوم، وهو جالس في مكانه بالمقهى عند الضحى، تتوجّه إليه طالبة في دلال: "أمان، ممكن تسلّفني تلفونك نقول كلميتين لأمّي في المستوصف؟" ناولها التلفون بيد مرتعشة وحلق جاف وسمعها تقول للطرف الآخر

القطار لا ينتظر أحدا

قد لا ير ى فيها ا لآخر و ن سوى تفاصيل صغيرة لا قيمة لها، ولكنّها ترتقي عنده إلى مرتبة الطقوس. لا يمكنه أن يسافر دون أن يح مل معه أشياءه البسيطة ويتّخذ جملة من الاحتياطات... طقوس ورثها عن والديه في تعاملهم مع السفر على قطار الثالثة فجرا الذي يشقّ بطن الجبال لينقل المسافرين من الغرب الأجرد القاحل إلى جهة السهول الشرقية حيث تتسلسل القرى والمدن الحيّة الموصولة بمزارع الزيتون الممتدّة على طول الساحل في أرض طينية حمراء وطرية تسلب النظر... ورغم تطوّر العصر وتكاثر وسائل النقل وتنوّعها، فلا أحد تجرّأ على المساس بقطار الثالثة فجرا. لا الشركة حذفته رغم قلّة مسافريه ولا هو استبدله بحافلة الثامنة صباحا أو بسيارات الأجرة. ظلّ مشدودا إلى تلك الرّائحة، رائحة الناس الطيّبين المعشّشة في خشب المقاعد الهرمة، ومفتونا بإيقاع العجلات الحديدية الرتيب وهي تنزلق فوق عمودي الفولاذ الممتدّين كثعبان. هناك فقط يمكنه أن يسمع تلك الصافرة المبحوحة التي تصل الأمس باليوم فتبقي على الذاكرة حيّة. رتّب في جرابة القماش التي ورثها عن أبيه زاد المسافر من طعام وأدوات ورثها كلّها عن أبيه. بيضتان مسلوقتان وسندويتش السردين

بنت الباساج

بي رغبة أن أسمّيها أمّ الباساج أو ملكته، فهذا أدقّ وأنصف لها... لست أعرف إن كنت قد عرفتها فعلا أم أنّها من نسج خيالي. لكنّ الثابت أنّ لها في الحالتين وجها بملامح واضحة وجسد وشخصية بسلوك ومواقف وردود أفعال معلومة كلّها لديّ، ومسجّلة في دماغي وذاكرتي... وقد يكون من الواجب عليّ حين أعود في المرّة القادمة إلى تونس أن أذهب إلى حديقة الباساج للبحث عنها والتأكّد ممّا إذا كانت لا تزال هناك. سأهديها كرتونة مارلبورو ذات عشر علب وزجاجة فودكا... هدية هي أجدر بها من أي صديق رغم أنّني لا أضمن ردّة فعلها، فقد ترفضها وتبصق وتسبّ كعادتها، وقد تفرح بها... سأبحث عنها في الحديقة أوّلا، ثمّ في محطّة الحافلات، وإذا لم أجدها سأتوغّل في الأزقّة المتفرّعة عن نهج الملاحة حيث باعة اللبلابي والمسروقات الخفيفة والبيض المسلوق على نار الوبابير. هناك حيث تعوّدت المخاطرة بالمرور ليلا لأطمئنّ عليها... تصرف يومها متنقّلة في حافلات الشركة الوطنية المشتغلة على خط الباساج، تنزل من حافلة لتركب أخرى. لا تطلب إذنا من أحد. جميع السوّاق وقاطعي التذاكر والمسافرين يعرفونها.. وبصرف النظر عمّا إذا كانوا يحبّونه

كرسي التدليك

Image
لست أعرف إن كانت إدارة الكلّية قد أحسنت صنعا بتوفير ذلك الكرسي في استراحة الأساتذة أم العكس. فقد سرى خبره منذ اليوم الأوّل لاقتناءه، وصار حديث الجميع في الكلية. كلّ من يجرّبه يصير يلهج بذكره أينما حلّ، وهو ما جعل الأساتذة والموظّفين يتقاطرون على فضاء الاستراحة لتجربته. عرفتُ أنواعا كثيرة من الكراسي مثل كرسي طبيب الأسنان وكرسي الحلاّق وكرسي الاعتراف وكرسي الاسترخاء الشاطئي، الخ. وأدرك أنّه لا جدوى من محاولة تعداد جميع أنواع الكراسي ووظائفها لأنّها عديدة ولا حصر لها. ولكنّني أعترف أنّ كرسي التدليك الكهربائي مثّل اكتشافا بالنّسبة لي. وهو للحقيقة أعجوبة تكنولوجية. يجلس الواحد على هذا الكرسي/الأريكة ويشدّ معصميه بحزام ويدسّ ساقيه في تجويف رخْوٍ سرعان ما يمتلأ بالهواء فينغلق على الساقين حدّ الركبتين. ومن خلال لوحة إلكترونية مثبتة بجانب اليد اليمنى، يستطيع المستخدم تعديل الجلسة وبرمجة مدّة التدليك وتضبيط نسقه وقوّته ونوع الموسيقى المرافقة. وبمجرّد الضغط على الزر الأخضر تنطلق كريات عديدة مثبتة تحت الغلاف الجلدي للكرسي الأريكة في الدوران والحركة في اتجاهات مدروسة تحاكي تضاريس الجسد وخارطة عض

عن المدرسة، مجرّد أفكار لا غير

اعتمدت وزارة التربية في ثمانينات القرن الماضي تصميما هندسيا نموذجيا لتشييد العديد من المعاهد الثانوية في البلاد، فظهرت في كثير من المدن معاهد متشابهة تجعل زائرها يستطيع التعرّف على مكتب الناظر أو على "صال ديس" وهو مغمض العينين. وقد دفع الوزارة إلى هذا الخيار حرصها على التحكّم في الكلفة. ولكنّها تلافت ذلك في السنوات اللاحقة وصارت تسعى إلى التنويع من خلال تكييف المبنى مع خصوصيات بيئته المناخية والتراثية والاجتماعية والاقتصادية. شخصيا، لا أستطيع الجزم أيّ النموذجين أفضل. من السهل القول أنّ في اعتماد التصميم الموحّد طمس للخصوصيات والتنوّع وتعليب للحياة على طريقة الأنظمة التوتاليتارية. ولكن كيف يرفض البعض هذا في المباني ويقبلونه عندما يتعلّق الأمر باعتماد الزي الموحّد بداعي أنّ من فضائله طمس الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ والتقريب بينهم والقضاء على عقد النقص أو التعالي؟ أخلص من هذا إلى أنّ التعامل مع الشأن التربوي، من البرمجة والتخطيط إلى التدريس، أمر بالغ الحساسية والتعقيد. وتمثّل المباني والأفضية إحدى أهمّ النقاط حساسية. شخصيا درست في مدرسة إعدادية بنايتها عبا

مرض اسمه: التونيزيت

عليك ألاّ تبتعد كثيرا عن مدينة تونس، وإلاّ أنكرتك ولفظتك إذا عدت إليها بعد طول غياب... حصل لي هذا معها في نهايات القرن الماضي لما عدت إليها بعد غيبة سبع سنوات فوجدت نفسي غريبا فيها وعن الوجوه التي تؤثّث فضاءاتها... تذلّلت حتى رقّ لي قلب حاسدي، وغفرت لي تونس جفوتي، ففتحت لي أحضانها من جديد كأمّ سامحت ابنها الضال... ولكنّني كرّرت فعلتي ثانية وهجرتها مجدّدا، وقد لا تغفر لي هذه المرّة... أتلصّص على أخبارها عبر موجات الإذاعات التي تكاثرت وتوالدت كالخلايا السرطانية، عساني أقتنص لقاء أدبيا أو سهرة لمهرجان تغريني بالخروج إليها، فلا أظفر باسم شاعر أو موسيقي أو مسرحي ممّن ألفتهم. من يكون هذا الكافون والبلطي؟؟ هل شجّعنا هذه التعبيرات الهامشية كي تأخذ مكان الفن الراقي وتتصدّر المشهد؟ نحن فقط نشجّع كافون حتى ننقذه ممّا كان ولا يزال فيه وكي يساعد في إنقاذ أمثاله، أمّا أن يتحوّل إلى أيقونة فنية ونجم النجوم المبجّل ليعتلي ركح قرطاج، فهذا من علامات حلول ساعة الفنّ في تونس التي صارت سنية مبارك تقرّر سياستها الثقافية... لهذا وغيره، ها نحن نرى شاعرا كعزّوز الجملي يختار الرّحيل في صمت وكمد، وقبله فعل